Sunday, June 9, 2013

التورق المنظم منتج سيئ السمعة







التورق المنظم
د. معبد علي الجارحي
رئيس الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي







مقدمة


دخل التمويل الإسلامي عالم التمويل التقليدي، حيث يتم تخصيص الموارد المالية بين الاستخدامات المختلفة على أساس سعر الفائدة، وحيث يطغى التمويل التقليدي من حيث الحجم وسيادة استخدام سعر الفائدة.  ويلاحظ أنه في ذلك الاقتصاد، يفوز بالموارد المالية لتمويل نشاطه الاستثماري من يستطيع أن يثبت قدرته على سداد قروضه.  ويكون ذلك من خلال استحواذه على ثروة تعطيه قدرة ائتمانية عالية، وتقديمه الرهون والضمانات الكافية لطمأنة المقرضين.  وعلى ذلك، فإن تخصيص الموارد المالية يتم على أسس تتصل بالقدرة على السداد، أي الأسس الإقراضية. 
وبدخول التمويل الإسلامي تلك الساحة، دخلت معايير جديدة لتخصيص الموارد المالية.  فالتمويل الإسلامي يعطي الأفراد والمؤسسات الفرصة للحصول على التمويل لنشاطهم الاستثماري، بقدر ما يستطيع كل منهم أن يحقق عائدا على الاستثمار يسمح له بسداد التمويل.  ولا شك أن الاستثمار الأكثر جدوى هو في الوقت نفسه الأكثر عائدا والأكثر قدرة على سداد التمويل.  وبالتالي فإن معايير تخصيص الموارد في ظل التمويل الإسلامي تصبح مبينة على جدوى استخدامها في تمويل الإنتاج والتبادل.  أي أنها معايير استثمارية وإنتاجية وليست معايير إقراضية.
وعلى عكس معايير تخصيص الموارد في النظام الربوي،  التي هي معايير إقراضية بحتة، تقدم معايير تخصيص الموارد الاستثمارية والإنتاجية  المطبقة من خلال التمويل الإسلامي منفعة حقيقية للاقتصاد على مستوي قطاع التمويل بصفة خاصة و الاقتصاد الكلي بصفة عامة. وبفضل تلك المعايير، يحقق الاقتصاد الكلي تنمية أكبر، وكفاءة اقتصادية أعلى.
على أن التمويل الإسلامي خلال نموه وانتقاله من مرحلة الطفولة الناعمة إلى مرحلة الصبا بما فيها من قوة وعنفوان، بدأ يواجه مشاكل حقيقية خلال التطبيق.  ويعود جزء من تلك المشاكل إلى ندرة الموارد البشرية المدربة، وصعوبة إعدادها بالسرعة اللازمة.  كما يعود الجزء الآخر إلى سوء فهم بعض الممارسين للأصول والقواعد والمقاصد الشرعية للتمويل الإسلامي.
والمهم أن تلك المشاكل تمخضت عن بعض المنتجات سيئة السمعة، التي لا تتوافر فيها الأركان الشرعية.  وتمثل تلك المنتجات مسخا سيئا لأساليب التمويل الإسلامي، فهي لا تضم محتواه الحقيقي، ولكنها تضم المحتوى الربوي بصورة فجة لا تخفى على الجمهور.  وتضم تلك المنتجات الأدوات المالية المبنية على بيع الديون، والتي تسمى تجاوزا صكوكا.  ومنتجات التحوط المبنية على الوعود المتبادلة، وصناديق التحوط المبنية على أساليب غير شرعية للمتاجرة في الأسهم، تنطوي على بيع ما لا يملك وربح ما لم يضمن.  وقد يكون أخطر هذه المنتجات وأجدرها بالبيان والتحذير ما شاعت تسميته بالتورق المنظم، الذي سوف نركز عليه في هذا المقام.    
وما التورق ليس إلا صورة مستحدثة مبتدعة تستبدل أسلوب التمويل الإسلامي بالأسلوب الربوي، مع محاولة تلبيسه بزي إسلامي لذر الرماد في العيون. وتكمن خطورة التورق وأمثاله من تلك المنتجات الممسوخة في أنها يمكن أن تهدد المسيرة المباركة للتمويل الإسلامي نحو النمو والازدهار، وتعكسها نحو فقدان المصداقية والانهيار.
وتهدف هذه المقالات إلى بيان الحقيقة بأن التورق عملية مبنية على أساس غير شرعي وليست لها أية صلة بمبدأ التمويل الإسلامي؛ وأن رواج التورق شديد الخطورة على التمويل الإسلامي، وأنه في النهاية وسيلة إلى إلباس الربا زيا إسلاميا من باب الحيل والتلاعب.
وهذه الورقة مبنية على منشورات سابقة للمؤلف، وعلى عدة أوراق قدمت معظمها لمجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي.
وتبدأ هذه المقالات ببيان الملامح البارزة للتمويل الإسلامي، ثم الإطار العام الذي يعمل خلاله، لكي نتعرف على ما يجوز وما لا يجوز.  وخلال ذلك، نورد رأينا في تشخيص أسباب حدوث سوء الفهم لمعالم وحدود الاقتصاد الإسلامي.  ثم تتناول بالتفصيل التورق الفردي والتورق المنظم، لبيان أن ما يشاع أن التورق الفردي أقره جمهور الفقهاء هو من قبيل الخطأ الشائع والتبسيط الشديد على أهون الفروض، وأن القدماء عرفوا التورق المنظم وحرموه تحريما قاطعا، ثم نبين آثار التورق ومآلاته على الاقتصاد ككل وقطاع التمويل الإسلامي خاصة.


الملامح البارزة للتمويل الإسلامي

‌أ.    معالم النجاح
يعتبر التمويل الإسلامي بحق أهم مساهمة للمسلمين في الحضارة الإنسانية في القرن العشرين، وأهم مصدر للابتكار المالي في القرن الحادي والعشرين. كما أن التمويل الإسلامي هو أفضل وسيلة عملية يمكن من خلالها إحياء تعاليم الديانات السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام، بالإضافة إلى ديانات أخرى كالبوذية والهندوسية، في جانب مهم من جوانب النشاط الإنساني، ألا وهو جانب الاقتصاد والمال. ذلك أنه عندما قدََم المسلمون التمويل الإسلامي في القرن الماضي إلى العالم، فتحوا لأتباع تلك الديانات بابا واسعا للتصالح مع معتقداتهم التي اعتبروها خارج إطار عصرهم، ونبذوها حتى أصبحت نسيًا منسياً منذ زمن بعيد.
بيد أن التمويل الإسلامي يتضمن خصائص أخرى عديدة، حيث إنه يستمد جذوره الفكرية من كل من علم الفقه الإسلامي وعلم اقتصاديات النقد والمال.  و هو يقدم أدوات للتمويل تتميز عن نظائرها الربوية من حيث العائد والسيولة والأمان.  فمن حيث العائد، بينما يبتعد التمويل الربوي عن تحمل المخاطر، من خلال تقديم قروض يضمنها المدينون، يتحمل التمويل الإسلامي جزءا من المخاطرة مع القائمين بالنشاط الاقتصادي، وبالتالي يكون مستحقا لمعدلات عائد أعلى من أسعار الفائدة على القروض المضمونة.  ومن حيث السيولة، فإن كثيرا من أنواع التمويل الإسلامي قابلة للتصكيك، أي التحول إلى صكوك قابلة للتداول في الأسواق المالية، وبالتالي توفر قدرا كبيرا من السيولة وتسمح بتدوير الموارد المالية.  ومن حيث الأمان، فإن معظم أنواع التمويل الإسلامي يتصل بتقديم سلع للحاصلين على التمويل، وهذا يقلل من المخاطرة بصورة ذاتية، فلا يحتاج الأمر إلى تقديم رهون إضافية.
ولقد حقق التمويل الإسلامي وما يزال يحقق نجاحا باهرا حيثما أعطي الفرصة للعمل الخلاق والعطاء.  ففي منطقة الخليج، نمت موجودات التمويل الإسلامي بما يزيد عن 30 في المائة سنويا في المتوسط خلال 2001-2006، وفي الإمارات وحدها، نمت تلك الموجودات بما يزيد عن 40 في المائة خلال نفس الفترة. كما ارتفع نصيب التمويل الإسلامي من السوق المصرفية الخليجية من حوالي 9 في المائة في 2001 إلى حوالي 17 في المائة عام 2006.  ومن المتوقع أن يتجاوز نصيب التمويل الإسلامي ثلث السوق عام 2010.   
وبينما نجد أن الفقه الإسلامي علم من علوم البيان، يستخلص الأحكام من نصوص القرآن الكريم التي لا تحتاج بطبيعتها إلى تحقيق، وإنما تحتاج إلى تفسير، و نصوص السنة التي تحتاج إلى التحقيق والتفسير.  وتستخلص تلك الأحكام عن طريق الاجتهاد الذي ينظر في تلك النصوص نظرة تحليلية، مبنية على المعرفة بعلوم التفسير والحديث واللغة العربية، والفقه المقارن، والمنطق، ومنهجية الفقهاء في استنباط الأحكام، والتي تكونت على مر قرون متعددة.  تلك العلوم وتلك المنهجية تدرس في جامعات مرموقة، حيث يحصل النابهون فيها على درجات الدكتوراه، ويقنع غيرهم بدرجات أقل. 
وقد يقول قائل إن رؤوس المذاهب الفقهية العظام، يرحمهم الله جميعا، لم يدرسوا في الجامعات ولم يحصلوا على الدكتوراه، وهذا قول من ذكر شيئا وغابت عنه أشياء.  فقد مر كل من أولئك العمالقة بنظام تعليمي صارم، حيث كان كل منهم يلتحق بمجالس العلماء في مختلف البلاد، ويتتلمذ على كل واحد منهم، حتى يشهد له بالعلم، أي بأنه استوعب منهجية وآراء من سبقوه، وأصبح قادرا على الاجتهاد. وبعد ذلك فقط، يقوم بإنشاء مجلسه ويتصدر للتعليم.  ولعمري فإن ذلك أشد وأعظم من الجلوس في الجامعة، حيث تتاح الكتب، ويجتمع الأساتذة من مختلف التخصصات، ويقدم العلم سهلا ميسرا لناهليه.   
وإذا نظرنا إلى الجانب الاقتصادي للتمويل الإسلامي، نجد أن علم اقتصاديات النقد والمال من علوم البرهان، المبنية على الاستنباط والاستقراء. وشتان بين منهجية علم الفقه البيانية، ومنهجية علم الاقتصاد البرهانية، الأمر الذي يوجب علينا أن نستعين بالفقهاء والاقتصاديين في آن واحد للوصول إلى الاجتهاد المناسب لكل حالة.
‌ب.         التحديات:
يعتبر الإسلامُ التعاملَ بالربا من الكبائر. ويرى خبراء الاقتصاد الإسلامي أن نجاح التمويل الإسلامي لايتحقق إلا في سوق حر متنافس، بحيث يتمتع كل من التمويل التقليدي والإسلامي بفرص متكافئة للتطبيق العملي جنبًا إلى جنبٍ وسواءً بسواءِ. ويصعب أن يتحقق تكافؤ الفرص بصورة كاملة لا تعطي لأي طرف ميزة على حساب الطرف الآخر. وأينما تحققت تلك الفرص ولو بصورة جزئية، كما هو الحال في دول الخليج،  فإن التمويل الإسلامي يتفوق على التمويل التقليدي في العديد من المجالات. ولو كان التمويل الإسلامي مجرد آمال زائفة أو طريقة قديمة متخلفة للتعامل التجاري، لفشل فشلا ذريعا في أول محاولة، وانسحب المؤمنون به دون ضجيج.
بيد أن التمويل الإسلامي يواجه تحديات خطيرة أهمها المنتجات سيئة السمعة.  ولعل السبب في ظهور تلك المنتجات هو اللهفة على تقديم منتجات مالية جديدة يمكن أن تحل محل المنتجات التقليدية.  إلا أن هذه اللهفة ينبغي أن يؤخذ بعنانها أخذاً شديداً، لأن هناك حدا فاصلا بين التمويل الإسلامي والتمويل التقليدي لا يجوز تخطيه. وهو حد يمكن التعرف عليه من خلال رسم الخطوط العريضة للتمويل الإسلامي.
‌ج.          من أين يأتي سوء فهم الاقتصاد الإسلامي؟:
لا بد من ذكر بعض التصورات الخاطئة التي تقود إلى تمييع الفروق بين بعض مفاهيم التمويل الإسلامي من ناحية ومفاهيم التمويل التقليدي من ناحية أخرى، وكذلك لا بد من ذكر أمثلة لتلك التصورات. فهناك مثلا الكثير من الخبراء الذين اعتادت أذهانهم على التمويل التقليدي يقومون بالخلط بين مفهوم كلمتي (القرض) و(التمويل)، ويقصدون باستخدام كلمة (القرض) معنى (التمويل).  والصحيح الذي لابد من التأكيد عليه أن المصارف الإسلامية تقوم بتوفير التمويل، ولا تقدم القروض المبنية على الفوائد الربوية. ومن الممكن أن يقوم بنك إسلامي بتقديم عدد محدود من القروض الحسنة بدون فوائد، على سبيل التبرع ومساعدة الفقراء.  ونظرا لأن البنوك الإسلامية تهدف للربح، فإن مثل هذا العمل سيظل محدودا في كميته. ويعتبر البنك الإسلامي للتنمية بجدة مؤسسة فريدة في نوعها، لأنها تقدم كثيرا من القروض الحسنة بدون فائدة للدول الأعضاء، ولا تأخذ مقابلها أية إضافة سوى مصروفات الإدارة الفعلية التي يتكبدها البنك.
وكمثال آخر يستخدم البعض تعبير (السندات الإسلامية) بدلا من الصكوك. ويلاحظ أن السندات تمثل ديونا ربوية، وهي تباع وتشترى.  في حين أن الشريعة الإسلامية تضع شروطا مشددة للاتجار في الديون. ولذلك، فلا يمكن أن تكون السندات إسلامية، أي أن مصطلح (السندات الإسلامية) مصطلح يومئ بالكثير من  التناقض.
و الحقيقة أن الصكوك عبارة عن أدوات مالية مبنية على أصول أو موجودات تكون أغلبها من غير الديون.  وإذا حدث وكانت هناك قلة من الديون بين تلك الموجودات، فلا بد أن تكون ناجمة عن تمويل إسلامي لشراء السلع والخدمات، ولا يجوز بحال أن تكون ديونا ربوية.
هناك أيضا خلط بين (التمويل) الشخصي و(القروض الشخصية). فالتمويل الشخصي يلبي احتياجات الأفراد لمواجهة حاجات شخصية مثل السفر والعلاج والمسكن والنقل والتعليم. وتلبي البنوك الإسلامية هذه الحاجيات عن طريق إجارة الخدمات وهي المعروفة في الفقه الإسلامي بالإجارة الواردة على عمل الإنسان. وتقابلها إجارة الأعيان.
فالمصرف الإسلامي يشتري (أو يستأجر) خدمة تعليمية بثمن (أو أجرة) يدفعه للمدرسة أو الجامعة، ثم يبيع (أو يؤجر) هذه الخدمة للمتعامل بثمن (أو أجرة) تدفع مؤجلة على أقساط مع هامش ربح يتفق عليه.  ومن أمثلة ذلك العلاج وإجراء العمليات الجراحية وخدمات السفر والنقل بالبر والبحر والجو، والفقه الإسلامي يجيز الإجارة الواردة على عمل الإنسان، كما يجيز الإجارة الواردة على منفعة الأعيان. والبنوك الإسلامية تمارس إجارة الخدمات لتوفير الحاجيات الشخصية للمتعاملين، إذ أنها لا تقرض بفائدة.
أما البنوك التقليدية، فتوفر هذه الحاجيات عن طريق القرض بفائدة، أو ما يسمى بالقروض الشخصية.
ولا تنحصر التصورات الخاطئة في حدود ما يكتب وينشر فقط، ولكنه يتعدى إلى الجانب التطبيقي كذلك. ويوجد في ساحات التمويل الإسلامي في الجانب النظري باحثون ومهنيون مزعومون  ممن يدعون معرفة العلم الشرعي بدون أي دراسة منهجية في الشأن. ومن هؤلاء القوم من زاده العلمي الشرعي لا يعدو بعض الشهادات غير العالية أو فوق ذلك بقليل. والعالم الشرعي الناضج، هو الذي يستطيع أن يجلس مجلس المجتهد، وبذلك يجب عليه أن يكون قادراً على دراسة مقارنة لجميع الآراء وفهمها حول كل موضوع يتناوله هو. وأقل ما يتطلب الأمر بهذا الشأن أن يكون ذلك العالم من حملة شهادات الدكتوراه في الشريعة من جامعة مرموقة.  ولذلك فإن تصنيف الجامعات التي تدرس العلوم الشرعية ضروري للغاية، حتى نعلم أن عالم الشريعة متخرج من إحدى الجامعات العشر الأول أو العشرين الأوائل مثلا، وليس من جامعة مغمورة.
وحملةُ الأسهم الذين يقومون بتعيين أعضاء الهيئات الشرعية لمؤسساتهم المالية يغفلون هذا الجانبَ في كثير من الأحيان.  كما أن سلطات الرقابة المصرفية تغفل وضع قواعد محددة لحوكمة الهيئات الشرعية، تتضمن الحد الأدنى من المؤهلات المطلوبة في علماء الشريعة.
أضف إلى ذلك أن علماء الشريعة ليسوا بالضرورة أن يكونوا خبراء في الاقتصاد والأمور المالية، فينبغي أن تضم كل هيئة شرعية خبيراً ماليًا واقتصادياً يلقي الضوء على القضية من منظور اقتصادي ومالي.
ومن المفارقات المؤسفة أننا نمنع ممارسة الطب مثلا بدون ترخيص، وأن نصر على أن يحمل المستشارون الاقتصاديون والمحاسبون والهندسيون وغيرهم أعلى الدرجات العلمية في فروع تخصصهم.  أما في القضايا الشرعية،  فلا نستوثق من مؤهلات الخبير.  بل يكفي أن يكون ذا لحية طويلة، وأن يكون قد ساعده الحظ لولوج أبواب عدة هيئات شرعية، على حين غفلة من أصحاب المؤسسات التي قامت بتعيينه.  ومن المعيب بالفعل أن بعض خبراء الشريعة في حقل التمويل الإسلامي، ليسوا متخصصين في الشريعة أصلا، بل ولم يقوموا بأي دراسة جامعية فيها على أي مستوى صغُر أم كبُر.  
ونحن نكاد نجزم أن أولئك الخبراء وأمثالهم، بجانب غفلة بعض علماء الشريعة عن المآلات الاقتصادية للفتاوى، هو الذي أدى إلى ظهور المنتجات سيئة السمعة في التمويل الإسلامي، والتي قد تكون ضيقة النطاق ولكنها سريعة الانتشار. وقد تمت هيكلة تلك المنتجات خارج نطاق إجماع علماء الشريعة، وهي مبنية على آراء قلة قليلة أو فتاوى ضعيفة السند موقعة من الخبراء المزعومين الذين ليس لهم نصيب من العلم والخبرة سوى الشيء اليسير، وهم قد جعلوا المصارف الإسلامية عرضة لمخاطر السمعة، من خلال ترويجهم للأدوات المالية المبنية على بيع الديون، ومنتجات التحوط المشبوهة، بجانب التورق المصرفي المنظم.
وقد يكون لدى المؤسسة المالية الإسلامية هيئة للفتوى من حملة الشهادات العالية، ولكن العاملين في المؤسسة يسيئون تطبيق الفتاوى بعمد أو على غير عمد.  وهذا يبرز الحاجة إلى ضرورة التدقيق الشرعي.  كما أن حجم جهاز التدقيق الشرعي في أي مؤسسة لا بد وأن يتناسب مع حجم المؤسسة ذاتها.  ومن القواعد البسيطة في هذا المجال، أن يكون هناك اثنان على الأقل من المدققين الشرعيين لكل مائة من العاملين في المؤسسة، وإلا فليس هناك ما يضمن حسن تنفيذ الفتاوى. ومن الواجب أيضا الحرص على أن يكون المدقق الشرعي مؤهلا، وأن يجمع بين الخبرة في التدقيق والمعرفة بالتمويل الإسلامي.
‌د.  الإطار الأساسي للتمويل الإسلامي:
يعتمد التمويل الإسلامي على أسلوبين في التمويل هما: المشاركة في الربح والخسارة، وتمويل السلع و الخدمات، ولكن التمويل الإسلامي لا يتعامل في تجارة المخاطر، ذلك التعامل الذي يتخذ طابعا قماريا لا يتفق مع الشريعة. أما التمويل الربوي فيقوم على أساس واحد لا شيء غيره، ألا وهو عقد الدين التقليدي الذي يباع بمقتضاه مبلغ من النقود الحالة مقابل مبلغ أكبر من النقود الآجلة، ويكون الفرق هو الربا أو الفائدة.  كما أن التمويل التقليدي لا يتورع عن الدخول في تجارة المخاطر. ويتضمن التمويل الإسلامي مجموعة من صيغ التمويل المبنية على علاقات تعاقدية بين مقدمي التمويل ومستخدميه.
وتقدم المشاركة في الأرباح والخسائر الموارد المالية للمتعاملين لتمكينهم من الحصول على عوامل الإنتاج، أو تمويل رأس المال العامل. وتحصل البنوك الإسلامية مقابل ذلك، إما على نصيب من الأرباح، أو نصيب من الأرباح و الإدارة معا.  ولا تنشأ أية مديونية في هذا الحالة.
ويوفر التمويل السلعي لمستخدميه البضائع التي يحتاجون إليها في الإنتاج أو الاستهلاك، وفي مقابل ذلك تحصل البنوك الإسلامية على الأرباح وهوامش الربح ودفعات الأجرة. ويترتب على التمويل السلعي ديون في ذمة العميل، إما على هيئة نقدية أو على هيئة سلعية. وتتقيد هذه المديونية بضوابط شرعية صارمة فيما يتعلق بحرمة بيع الدين سوى بقيمته الاسمية. وإن هذه المديونية تحدد قيمتها في مستهل كل معاملة، ولا يمكن أن تضاف إليها أية زيادة بأي حال من الأحوال، وعلى هذا فإن المديونية المترتبة على التمويل الإسلامي بعيدة كل البعد عن المديونية التقليدية.
‌ه.  قائمة المنتجات:
يستخدم التمويل الإسلامي إثنتى عشرة صيغة للتمويل مقابل عقد واحد للدين التقليدي. وتشمل تلك الصيغ (1) المشاركة، و(2) المشاركة المتناقصة، و(3) المضاربة المقيدة، و(4) المضاربة غير المقيدة و(5) الوكالة المطلقة و(6) الوكالة المقيدة، و(6) الإجارة، و(7) الإجارة المنتهية بالتمليك، و(8) المرابحة، و(9) البيع بثمن آجل، و(10) الاستصناع، و(11) السلم. وقد اجتاز التمويل الإسلامي مرحلة الاقتصار على استخدام صيغة واحدة لكل معاملة، حيث يشمل العديد من معاملات التمويل الإسلامي صيغاً تمويلية متعددة، وعلى سبيل المثال، يمكن استخدام كل من المشاركة والإجارة والاستصناع  في معاملة واحدة.  وإن مهارة هيكلة معاملات التمويل الإسلامي في تقدم سريع مستمر، حتى أن التمويل الإسلامي أصبح يقدم قائمة للمنتجات أكبر و أشمل مما يقدمه التمويل التقليدي.
ومن الضروري التعامل مع هيكلة التمويل الإسلامي الذي ينطوي على المزج بين صيغ عديدة بحذر شديد، لأنه يتطلب استخدام عقود متعددة، ويحتاج إلى قدرة خاصة على تجنب تعارض العقود، لتكون المعاملة مطابقة للشريعة، ويبذل علماء الشريعة قصارى جهودهم ليتجنبوا أن يكون أي من تلك العقود مشروط بعقد آخر، أو أن ينزلقوا في بيع الديون.  كما يحرص علماء الشريعة على النظر في مآلات الأحكام التي يصدرونها، وأن تتفق المآلات مع المقاصد الشرعية.
ونتيجة لثراء التمويل الإسلامي بالأساليب والمنتجات، فمن الواجب على علماء الشريعة العاملين في مجال التمويل أن يحصلوا على قدر عال من التخصص في مجال عملهم، كما يجب عليهم أن يعملوا كجزء من فريق متكامل من الاقتصاديين والخبراء الماليين والقانونين وغيرهم من المتخصصين في إعداد المستندات،  وأن يعطوا عناية كافية للمآلات الاقتصادية في الفتاوى الصادرة عنهم؛ ويجب أن تؤخذ هذه النتائج في الاعتبار، وإلا فيمكن لمعاملة ما أن يتحقق فيها الجانب الشرعي في الشكل فقط، دون أن يتحقق في جانب المضمون، إضافة إلى ذلك، يكون بعض العقود مطابقا للشريعة عند تنفيذه منفردًا ولكنه يصبح متعارضًا مع الشريعة في حالة جمعه مع عقود أخرى.
‌و. منافع التمويل الإسلامي
بناء على نظرية العرض الأمثل للنقود التي ظهرت عام 1969، والتي ازدادت انتشاراً بين الاقتصاديين، وزادت قوة حجتها بمرور الزمن؛ فإن انخفاض سعر الفائدة إلى الصفر هو شرط ضروري وكاف في آن واحد لتحقيق التخصيص الأمثل للموارد أو أعلى مستوى ممكن للكفاءة الاقتصادية.  ولا شك أن القارئ يقدر صعوبة شرح النظريات الأكاديمية بأسلوب مبسط، ولكن من الممكن أن نسوق مثلا لما تدل عليه نظرية العرض الأمثل للنقود.  ففي ظل النظام الربوي، يعرف الناس أن النقود لها عائد يأتي دون عناء من مجرد إيداعها لدى مصرف ربوي.  فإذا كان هناك مالك لمحل تجاري، يريد أن يعظم أرباحه، فالأولى به أن يبقي اقل ما يمكن من النقود في خزائنه.  ولكن ذلك يصعب، لأنه خلال ساعات العمل، يأتي إليه الزبائن ويشترون بضاعته مقابل النقود. وبذلك يتراكم النقد لديه.  ولتجنب ذلك، يعين مالك المحل عاملا ومعه سيارة، ليأخذ ما يتراكم من النقود لإيداعها في البنك بضع مرات خلال اليوم.  وتمثل رحلات ذلك العامل مع سيارته بين المحل والبنك ضياعا في الموارد، لأنه كان من الممكن استخدامهما في استجلاب البضائع أو حتى في إنتاجها.  وبالتالي، فإننا لو حولنا ذلك العامل إلى استخدام آخر لزاد الإنتاج، ولكن يمنع ذلك أن صاحب المحل سوف يفقد العائد الربوي الذي يجنيه من إيداع أمواله لدى البنك.
وما تقصده النظرية أن دفع الفوائد على النقود يحفز المتعاملين على التقليل من حيازتهم من النقود، وفي معرض ذلك، يستخدمون موارد حقيقية (كالعمل ورأس المال) بدلا من النقود.  وبذلك ينخفض استخدام العمل ورأس المال لأغراض الإنتاج، ويكون إجمالي الإنتاج في الاقتصاد أقل مما يجب، أي أن الكفاءة الاقتصادية تكون منخفضة.  ولتلافي ذلك، تدعو النظرية إلى خفض سعر الفائدة إلى الصفر. ومعنى ذلك أن النقد الحال لا يجوز بيعه بقيمة أكبر من النقد الآجل، وإلا انخفضت كفاءة الاقتصاد. 
  ويلاحظ أن استخدام صيغ التمويل الإسلامي يمنع بيع النقود الحالة مقابل النقود الآجلة، وبالتالي لا تتضرر كفاءة الاقتصاد، ولا تنقض شروط التخصيص الأمثل للموارد.
وتتبع الصيرفة الإسلامية أسلوب الصيرفة الشاملة، التي تجمع بين التمويل عن طريق المساهمة (المشاركة في الأرباح والخسائر) والتمويل السلعي.  ويؤكد الاقتصاديون على أن الصيرفة الشاملة تقلل من مخاطر التمويل، خاصة مخاطرة سوء اختيار العملاء الذين يحصلون على التمويل (مخاطرة سوء الاختيار)، ومخاطرة قيام العميل، بعد حصوله على التمويل باستخدامه في غير ما خصص له (مخاطرة النزوع السيئ).
وحيث أن المصارف الإسلامية لا يجوز لها أن تضمن الودائع الاستثمارية، اللهم في حالة الإهمال والتقصير، فإن المودعين يشاركون المصرف في الأرباح والخسائر، وبالتالي، عندما يواجه أحد المصارف أزمة خاصة كانت أو عامة تؤدي إلى بعض الخسائر، وهذا شيء نادر بين المصارف التي تدار بحرص واحتراف، فإن المودعين يتحملون نصيبهم من تلك الخسائر، وهذا يحمي المصرف من الانهيار. أي أن المصارف الإسلامية أكثر استقرارا من المصارف التقليدية في وقت الأزمات.
وكما ذكرنا من قبل، لا يوجد لدى الصيرفة التقليدية سوى مكون واحد فقط يستخدم في هيكلة منتجاتها المالية، ألا وهو عقد الدين أو القرض الربوي. ولهذا يمكن تشبيه التمويل الربوي بمطعم يستخدم صنفا واحدا في إعداد الطعام، كالبطاطس مثلا،  ولا تعدو الخيارات المقدمة لعملائه أطباق البطاطس المعروفة، سواء كانت مسلوقةً أو مهروسة أو مقلية أو مشوية أو في مرق.  ولكنها في كل الأحوال بطاطس. وبالمقارنة، يتميز التمويل الإسلامي بالعديد من المكونات، ولقد عددنا من قبل أحد عشر مكونا، فهو أشبه بالمطعم الذي يستخدم جميع المكونات من اللحوم والطيور والأسماك والخضروات والفاكهة، باستثناء البطاطس التي رمزنا بها إلى القرض الربوي.  وهذه ليست خسارة كبيرة، حيث أن بدائل البطاطس عديدة. وبذلك يستطيع أن يقدم المطعم الإسلامي عددا هائلا من الأطباق المميزة. أي أن الخيارات المتاحة للمتعاملين في التمويل الإسلامي غير محدودة، باستثناء خيار واحد، وهو التمويل الربوي. بينما هي محدودة للغاية في التمويل الربوي. وهذا يعطي التمويل الإسلامي ميزة تنافسية حقيقية.
ويعطي التمويل الإسلامي أهمية خاصة لأساليب المشاركة والمساهمة، كما أنه يلتزم في استثماراته بالمعايير الأخلاقية، حيث تمنع الشريعة تمويل إنتاج وتوزيع الموبقات من الدخان و الخمور و المخدرات و الأسلحة غير القانونية، والأنشطة التي تسبب أو تحض على الفساد، والمواد التي تسبب ضررا للإنسان والحيوان والنبات والبيئة بصفة عامة.
و الخلاصة أن الاقتصاديين ينظرون إلى التمويل الإسلامي كنظام يمنع بيع النقود بالنقود. ويحظي بمزايا حقيقة من الكفاءة والاستقرار والتقليل من المخاطر، بالإضافة إلى أنه يتميز بتنوع المنتجات مقارنة بالتمويل التقليدي، وأنه يأخذ في الاعتبار الجوانب الأخلاقية عند تقديم التمويل.


الإطار العام للتمويل الإسلامي

يستقي التمويل الإسلامي مفهومه الأساس وإطاره العام من النظام الاقتصادي الإسلامي ككل. ويجب على كل من علماء الشريعة وعلماء الاقتصاد الإسلامي أن يأخذوا الإطار العام للتمويل الإسلامي في الاعتبار لكي يبقوا على الحد الفاصل بينه وبين التمويل التقليدي. ومن البداية، يجب أن يستخدم الإطار العام كمعيار لتجنب الربا، الذي هو حجر الأساس في ذلك الإطار. حيث نجد أن ملامح التمويل الإسلامي الأساسية تخدم غرضا واحدا، ألا وهو التقيد بالحكم  المنصوص في القرآن الكريم ضد التعامل بالربا "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (سورة البقرة الآية 278 )، وكذلك الالتزام  بنهى الرسول e  عن بيع النقود بالنقود إلا مثلا بمثل ويدا بيد وسواء بسواء: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" (رواية مسلم عن عبادة بن الصامت). وهو ما يفسر ويؤكد الحكم المنصوص عليه في القرآن الكريم.
‌أ.    التمويل الإسلامي و طبيعة النقود:
يدرك علماء الاقتصاديات النقدية والمالية بأن النقود ليست كالسلع الأخرى.  إلا أنهم يدركون أيضا أن التوقف عن معاملة النقود كغيرها من السلع الأخرى يحتاج إلى وقت طويل لتغيير كثير من العادات والممارسات القديمة.  كما أن علماء الشريعة أيضا يدركون هذا الاختلاف ويعلمون أن النقود لا تتعين، بمعنى أن وحداتها متشابهة، ولا يمكن تمييز درهم عن درهم، أما السلع الأخرى فتتمايز وحداتها.  فالملاحظ مثلا أن من يشتري التفاح مثلا في الأسواق يقوم بانتقاء ما يفضله من التفاح، تفاحة تفاحة، فيلتقط التفاحة التي تعجبه ويترك ما لا تعجبه. والشيء ذاته يتكرر في أية سلعة أخرى.  وهذا الانتقاء غير وارد بين أوراق النقد ولا بين العملات المعدنية من نفس الفئة.
كما أن الفقهاء يتفقون مع الاقتصاديين في أن النقود والسلع الأخرى تختلف فيما تقوم به من وظائف.  فالسلع تقدم الإشباع المباشر لرغبات حائزيها: الطعام يشبع الحاجة إلى الغذاء، والسكن يشبع الحاجة إلى المأوى، والملابس تشبع الحاجة إلى الكساء، وهكذا.  أما النقود فلا تشبع حاجة مباشرة، ولكنها تقوم بوظائف محددة.  أولها أنها تستخدم كمعيار للقيمة، أي لقياس قيم الأشياء، فالمنزل مثلا يساوي مليونا من الدراهم.  ومن الممكن من حيث المبدأ أن نقيس قيمة المنزل بعدد من البقر أو الإبل، ولكن قياسها بالدراهم يعطي صورة أوضح.  ولذلك، فالمنافسة بين النقود وغيرها من السلع على القيام بتلك الوظيفة يذهب غالبا لصالح النقود.  كما أن النقود تستخدم أيضا كمخزن للقيمة، أي كوسيلة لخزن الثروات، فمن الممكن أن يحتفظ الإنسان بثروته على هيئة نقود، وإن كان من الأفضل أن يوزع ثروته بين مشاركات في شركات متنوعة والعقارات والنقود.  ولذلك، فإن السلع الأخرى تتنافس مع النقود في هذه الوظيفة وتفضلها في كثير من الأحيان. كما أن النقود تستخدم كوسيلة للتبادل.  فبدلا من مقايضة العمل بالطعام والمسكن مثلا، يباع العمل مقابل النقود التي تستخدم لشراء الطعام والمسكن.  ولا تستطيع السلع الأخرى التنافس مع النقود في هذه الوظيفة المهمة.      
 وعلى ذلك، فإن السلع يمكن أن تتنافس مع النقود بدرجات متفاوتة في القيام بوظيفة مقياس القيمة، ومخزن للثروة. إلا أن النقود لا يمكن أن تنافسها سلعة أخرى في القيام بوظيفة وسيلة للتبادل. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن النقود لا يجوز أن يتاجر بها كما يتاجر بالسلع أخرى. وبالرغم من ذلك، فإن التمويل التقليدي لا يعترف باختلاف النقود عن غيرها من السلع، حيث إنه مبني على بيع النقود الحالة مقابل النقود المستقبلة.
و يتميز التمويل الإسلامي بتعامله مع النقود بأسلوب يختلف عن التعامل مع السلع الأخرى، وذلك من خلال ثلاثة ملامح:
أولا: أن تبادل السلع (بما فيها النقود) مقابل نفسها (المقايضة) بكميات غير متساوية يعد ربا في التمويل الإسلامي، على الأقل في الأصناف الستة المذكورة في رواية عبادة بن الصامت، وعلى خلاف في بقية السلع.  ولا يبرر وجود اختلاف في جودة السلع أن يتم تبادلها بالمقايضة، بل يجب التبادل من خلال النقود، أي بيع السلعة عالية الجودة بالنقد، ومن ثم شراء السلعة الأقل جودة بالنقد. مما يؤكد على أهمية الحرص على استخدام النقود كوسيلة للتبادل.
ثانيا: يجوز أن يكون السعر الآجل لسلعة غير النقود أعلى من السعر الحال (العاجل). وهذا من باب التجارة الجائزة شرعاً بل والجديرة بالتشجيع.
ثالثا: إذا بيع نقد حال بنقد آجل من نفس الجنس، وجب أن تتساوى كمية النقد الحال مع النقد الأجل. وأي تفاضل في هذا الجانب يعد رباً.  أما إذا اختلف الجنسان، كما في صرف عملة بعملة أخرى، فلا بد من التقابض.
وينطلق التمويل الإسلامي من النهي عن بيع نقود حالة مقابل نقود مستقبلة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا دليل واضح على أن النقود في التمويل الإسلامي لا تجري معاملتها كالسلع الأخرى.  إذ بينما يمكن تبادل النقود مقابل سلع أخرى، فإنه لا يجوز تبادل النقود الحالة مقابل النقود المستقبلة. وفي حالة تبادل النقود أو تجارتها مقابل نفسها، يجب أن تكون قيمتا البدلين متساويتين في حالة اتحاد الجنس،أي أنه لا يجوز أن يحقق مقرض النقود الحالة أية منفعة من خلال قرضه، سوى الأجر والثواب على القرض الحسن. كما يجب أن يتم التقابض فورا في حالة صرف عملة بعملة أخرى.
وفي حالة التمويل بالمشاركة يتم توفير النقود مقابل شراكة في الأسهم والحصص والتي تتضمن الشراكة في الإدارة والأرباح، في حين يتم توفير النقود في حالة المضاربة مقابل شراكة في الأرباح دون الإدارة، ولا يحصل في أي حال من الأحوال توفير النقود مقابل النقود. أما في حالة التمويل السلعي بالمرابحة والبيع بثمن آجل، تقدم السلع مقابل النقود المستقبلة، أما في حالة التمويل بالسلم، تقدم النقود الحالة مقابل سلع مستقبلة، وفي كل الأحوال يمكن أن تشمل السلع محل التمويل سلعا استهلاكية، أو سلعا رأسمالية معمرة، أو منافع و خدمات.
‌ب.         توافر صحة الشكل وصحة الغرض
يجب أن تستكمل عقود المعاملات صحتها من حيث الشكل. وعلى سبيل المثال يجب أن يتملك البائع السلعة ويحوزها (يقبضها) حيازة فعلية أو حكمية، وان تكون لدى البائع والمشتري الأهلية القانونية للتصرف، وأن تتوفر أركان البيع من الإيجاب والقبول.  وأن يحدد العقد موضوع البيع والثمن والكمية وتفاصيل تسليم السلع ودفع الثمن.  ويجوز النص على تأجيل أحد البديلين ( السلع أو الثمن)، ولكن لا يجوز تأجيل كليهما، و لا يجوز أن يكون البيع معلقا على شرط.  كما يجب أن تتوفر صحة الغرض في كل عقد، بمعنى مشروعية الهدف من البيع.
و لاشك أن صحة الغرض شرط جوهري لصحة العقود وجوازها، فالعقود التي تفي بمجرد شروط الصحة الشكلية لا تعتبر جائزة شرعا إذا كان المقصود من تلك العقود هدفا محرماً.  وقد تحتاج معاملة ما إلى عدد من العقود لتنفيذها.  وقد تتوفر في كل عقد على حدة شروط الصحة الشكلية،ولكن من الممكن لهذه العقود أن تكون غير صحيحة في مجموعها إذا كانت تستهدف تحقيق غرض محرم، مثل بيع النقود الحالة بالنقود الآجلة مع التفاضل في البدلين.
ومن المؤكد أن العقود التي تستهدف في جملتها تحقيق أغراض غير مشروعة من خلال إجراء معاملات مشروعة بمفردها تكون باطلة شرعاً. ومن تلك الأهداف التعامل بالربا أخذًا أو عطاءً، و التجارة في المحرمات، وأكل أموال الناس بغير حق.
وتشمل صحة الغرض أن يتوافق مع كل ما يحقق أو يدعم مقاصد الشريعة.
‌ج.          اعتبار النوايا المصرح بها
هناك قواعد معينة للتعامل مع النوايا، ومنها مبدأ إنما الأعمال بالنيات، وأن الحكم يقع على الأعمال وليس على الأشخاص، وأنه لا يجوز افتراض سوء النية، بل الحكم يكون باعتبار النيات الظاهرة بالقول أو بالعمل.  ومتى ظهرت تلك النيات صراحة، فلا بد من أخذها في الاعتبار عند إصدار الأحكام.
ووفقا لتلك القواعد، يمكن أن نستنتج أن شخصًا ما يهدف إلى الحصول على النقود، وذلك بإحدى وسيلتين اثنتين.  الأولى أن يقوم ببيع بضائع أو خدمات يملكها مقابل نقود. و عندما يبيع الشخص بضاعة كان يملكها أو قد تملكها أصلا بغية الانتفاع بها، فهو يحصل على النقود مقابل تسليم بضائع، ولاشك أن ذلك جائز شرعًا.    
والثانية، أن يمارس عملية بيع وشراء للحصول على النقود وليس السلع في نهاية المعاملة. والوسيلة الأخيرة أسلوب محدد تناوله الفقهاء وهو شراء بضاعة بثمن آجل ثم بيعها إلى بائعها الأصلي مقابل ثمن حال.  وهذا هو بيع العينة، الذي تكون فيه النية مبيتة للحصول على النقد وليس البضاعة، وقد اتفق جمهور الفقهاء على تحريمه.
ذلك أنه في حالة العينة، يقوم الشخص بشراء بضائع لا يريدها مقابل ثمن آجل، ومن ثم يقوم يبيع نفس البضائع مقابل ثمن حال أو عاجل. وهذا يعنى أن هناك نية صريحة وواضحة لبيع النقد بالنقد. وفي هذه الحالة يتم التبادل دون أن تتحرك البضائع من مستودع المورد/البائع.
ويلاحظ أنه من الناحية الاقتصادية لا تؤثر معاملات العينة على الطلب الكلي على السلعة، وبالتالي على الحافز على إنتاج المزيد منها. وذلك لأن الشراء الأول مقابل ثمن آجل أدى إلى حدوث إضافة مؤقتة، ولبضعة لحظات، إلى مجموع الطلب، ولكن البيع الثاني مقابل ثمن حال أو عاجل، والذي يتم بعد البيع الأول بلحظات، يؤدى إلى نقص مساوٍ في مقدار الطلب.
والخلاصة أن هذه المعاملة يقتصر أثرها على سوق النقد حيث يتم تبادل نقد عاجل مقابل نقد آجل، مما يؤدي إلى زيادة المديونية، دون تغير مقابل في مجموع المخزون من نفس البضاعة. وعند تنفيذ عقدين في معاملة واحدة ( شراء بثمن آجل + بيع بثمن عاجل)، يكون المشتري في العقد الأول وهو نفسه البائع في العقد الثاني، قد حصل على نقد حال مقابل نقد آجل.  وهذا ربا تحرمه الشريعة قطعًا. ولا يستطيع نفس الشخص أن يخفي نيته.  وفي الحقيقة أن قيامه ببيع البضاعة فورًا بعد شرائها يدل على أن هدفه ونيته من التعامل هو الحصول على النقود وليس البضاعة. والخلاصة أيضا أنه في حالة عدم وضوح النيات فيجب علينا أن نأخذ الأمور بظواهرها، وليس بالظن. وعندما تعلن الأهداف بصورة صريحة، أو عن طريق الأفعال التي تؤكد المقصود منها، فيجب أن يؤخذ في الاعتبار عند الحكم على هذه العقود مشروعية الغرض من ورائها.


التورق كمنتج سيئ السمعة

‌د.  التورق على المستوى الفردي
التورق لغة يعني الحصول على نقود أو عملات.  واصطلاحا يقصد به بيع العينة الذي ينطوي على شراء بضاعة بثمن آجل ثم بيعها بثمن عاجل، سواء تم البيع الأخير إلى البائع الأول أو إلى بائع آخر .  والحقيقة أن نية المتعامل الحصول على النقد، وأنه يشتريها ثم يبيعها للطرف الثاني أو لطرف ثالث بنية تعديل شكل المعاملة للوصول إلى الصحة الشكلية، أما صحة الغرض فلم تتحقق، لأن الغرض لا يعدو بيع نقد بنقد.
والشائع أن هناك فرق بين العينة والتورق.  وأن العينة هي الحصول على النقد من خلال شراء بالأجل يتبعه بيع منجز إلى نفس بائع السلعة الأصلي.  أما التورق فهو شراء بضاعة بالأجل من طرف ثان ثم بيعها نقدا إلى طرف ثالث.  إلا أن كثيرا من الفقهاء عاملوا التورق معاملة العينة، فكما يؤكد الدكتور سامي السويلم أن الحنفية عرََفوا العينة بما يشمل مفهوم التورق، ووافقهم في ذلك المالكية[1].  
والشائع أيضا أن جمهور الفقهاء أجازوا التورق الفردي.  إلا أن الدكتور علي السالوس يورد أدلة على أن الراجح من المذهب الحنفي عدم جواز التورق[2].  وإن كان الترجيح مبني على الاجتهاد، إلا أنه دليل على أن الأحناف لم يجتمعوا على جواز التورق.  كما يذكر الدكتور علي السالوس أن المالكية لم يقولوا بجواز التورق، بل قالوا بمنعه.  كما أن ما رواه أبو داود عن الإمام أحمد بن حنبل يؤكد أن الإمام اعتبر ما هو معروف حاليا بالتورق عينة محرمة.
يضاف إلى ذلك، أن شيخ الإسلام ابن تيمية وكذلك تلميذه ابن القيم يذهبان إلى عدم جواز التورق الفردي وأن ما اشتهر عن الجواز عند الحنابلة أخذ عن الموسوعة الفقهية الكويتية، التي يبدوا أن ذلك كان هفوة نادرة الحدوث في هذه الموسوعة القيمة. وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله لقوله هذا مستندين: الأول أن التورق من باب بيع المضطر وقد ورد النهي عن بيع المضطر، والثاني انه حيلة على الربا.
قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين "وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق وروجع فيه مراراً وأنا حاضر فلم يرخص فيها وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها...[3]"
ولكي نفهم كلام ابن تيمية رحمه الله في أن التورق نوع من الحيل، نرجع إلى ما قاله في الفتاوى "وأصل هذا الباب أن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فان كان قد نوى ما أحله الله فلا بأس وان نوى ما حرم الله وتوصل إليه بحيلة فان له ما نوى[4]" فكأن الحيلة عند الإمام ابن تيمية أن ينوي الإنسان شيئا محرماً يتوصل إليه بالتحايل.
والمتورق نيته ارتكاب الحرام، وهو شراء نقد عاجل بنقد آجل. وقد يكون أقل كلفة ونفقة من الاقتراض المحرم، إما لأنه لا يستطيع الاقتراض، فالقرض الصريح غير ممكن، أو أن المرابي الذي سيقرضه سيفرض عليه ربا عال لاضطراره.  وفي هذه الحالة يكون التورق من باب بيع المضطر في نفس الوقت.
ويقول ابن تيمية أن "هذه المعاملة وأمثالها التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هي معاملة فاسدة".
و على نفس النسق، ذهب بعض أهل العلم إلى إن التورق  الفردي لا يجوز، لأن القصد من ورائه الحصول على النقد، حيث انه يؤول إلى شراء دراهم بدراهم زائدة، وان السلعة واسطة غير مقصودة.  وممن قال بعدم جوازه: أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وصاحب أبي حنيفة أحد أئمة المذهب الحنفي، الإمام محمد بن الحسن الشيباني.
. ويروي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية نقلا عن ما جاء في فتواه: «إذا لم يكن للمشتري حاجة في السلعة، بل حاجته إلى الذهب أو الورق فيشتري السلعة ليبيعها بالعين الذي احتاج إليها، فإن أعاد السلعة إلى البائع، فهو الذي لا شك في تحريمه، وان باعها لغيره بيعا تاما ولم تعد إلى الأول بحال فقد اختلف السلف في كراهته ويسمونه التورق». وكان عمر بن عبد العزيز يكرهه ويقول: التورق أخية الربا أي أصله.
وهكذا نجد خلافا لما هو شائع، أن التورق لم يحظ بموافقة جمهور الفقهاء، فهو محرم وفقا لرأي من الحنفية يقول البعض بترجيحه، كما أنه محرم وفقا لرأي أعلام المذهب الحنبلي، كما أن المالكية لم يبيحوه، فماذا بقي من جمهور الفقهاء؟!      
‌ه.  التورق المنظم.
التورق المنظم، يمكن أن يجري عن طريق أحد التجار، كما تستخدمه بعض البنوك الإسلامية للأسف الشديد دون تحفظ.  ويختلف التورق المنظم عن التورق الفردي في ثلاثة أشياء،  الأول، أن نية بيع النقد بالنقد، وإن كانت مبيتة في الحالتين، فهي أكثر صراحة ووضوحا في التورق المنظم.  فالمتعامل يأتي لأحد التجار أو للبنك معلنا عن رغبة صريحة في الحصول على نقد حال مقابل نقد آجل. وفي المقابل، يفصح المصرف عن قبوله القيام بتقديم ما يريده المتعامل، مدعيا أن لديه "عقودا شرعية" تسمح بتدبير نقد عاجل مقابل نقد آجل، دون الوقوع في الربا (!).
والشيء الثاني أن الطرفين (المتعامل والبنك) يدخلان في عقد ضمني غير مكتوب بإيجاب وقبول ضمني بأن يقدم البنك للمتعامل نقودا عاجلة مقابل نقود آجلة، ويبقى ذلك العقد غير معلن،  وهو عقد باطل شرعا، لاحتوائه على الربا الصريح.  وقد يدعي البعض عدم وجود هذا العقد، وان الأمر كله بيع وشراء.  ولكن العبرة بالقصد الحقيقي، والقصد هنا ليس البضاعة التي تباع وتشترى، وإنما القصد هو النقد بذاته.  كما أن العبرة أيضا بما تؤول إليه المعاملة في النهاية.  والذي تؤول إليه معاملة التورق هو نقد عاجل بنقد آجل.
والثالث أن المتعامل والتاجر أو البنك يوقعان عقودا تستخدم لتنفيذ العقد الباطل، تتضمن أن يبيع البنك أو التاجر سلعة للمتعامل مرابحة بثمن مؤجل، ثم يقوم البنك بتيسير بيع السلعة بثمن عاجل لكي يحصل المتعامل على النقد الذي يبتغيه.  وهذا يكون بأحد أسلوبين.  الأول أن يبيع البنك السلعة نيابة عن المتعامل بناء على عقد وكالة، والثاني أن يرشد البنك المتعامل إلى من يشتريها منه.  وينتهي الأمر بأن عددا من العقود المباحة في الظاهر توقع بين البنك والمتعامل دفعة واحدة، تضاف بمقتضاها النقود إلى حساب العميل.  ويلاحظ أنه وإن كانت العقود الأخيرة صحيحة كل بمفرده، فإنها في مجموعها باطلة لأنها تابعة لتنفيذ عقد باطل.
والشائع أن التورق المنظم شيء مستحدث ولم يكن معروفا في زمن السلف الصالح.  إلا أن الدكتور سامي السويلم يؤكد أن السلف عرفوه وحكموا بتحريمه صراحة.  ويقدم الدكتور سامي رواية حول حكم الإمام سعيد بن المسيب رحمه الله في التورق المنظم، ذلك الإمام الذي لقي جمعًا كبيرًا من الصحابة، وقد كان صهر أبي هريرة رضي الله عنه، وكان مقيمًا بالمدينة المنورة وفيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أعلم الناس بأقضية النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر[5].
(روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن داود بن أبي عاصم الثقفي أن أخته قالت له: إني أريد أن تشتري متاعًا عِينة، فاطلبه لي. قال: فقلت فإن عندي طعامًا، [قال:] فبعتها طعامًا بذهبٍ إلى أجل، واستوَفته. فقالت: انظر لي من يبتاعه مني. قلت: أنا أبيعه لك. قال: فبعته لها. فوقع في نفسي من ذلك شيء. فسألت سعيد بن المسيب فقال:”انظر ألا تكون أنت صاحبه؟“ قال: قلت فأنا صاحبه. قال: ”فذلك الربا محضاً، فخذ رأسمالك، واردد إليها الفضل“، هذا لفظ عبد الرزاق. ولفظ ابن أبي شيبة: عن داود بن أبي عاصم أنه باع من أخته بيعًا إلى أجل، ثم أمرته أن يبيعه، فباعه. قال:فسألت سعيد بن المسيب فقال: ”أبصر ألا يكون هو أنت؟“ قلت: أنا هو. قال: ”ذلك الربا، فلا تأخذ منها إلا رأسمالك.[6])
ويستقي الدكتور سامي من تلك الرواية أشياء.  الأول أن المعاملة التي تمت بين داود وأخته كانت من التورق المنظم، لأن داود هو الذي باع السلعة بأجل ثم تولى بيعها نقدًا نيابة عن أخته لطرف ثالث. ويدل ذلك على أن البيع النقدي كان لطرف ثالث.  الثاني أن فتوى سعيد بن المسيب رحمه الله كانت بتحريم هذه المعاملة، حيث وصفها بأنها ”الربا محضًا“، وأن داود ليس له من أخته إلا رأسماله الذي يعادل الثمن النقدي، وتبطل الزيادة فوق ذلك.  الثالث أن فتواه رحمه الله كانت حاسمة وواضحة، وهذا يشعر أن هذه المعاملة لم تكن جديدة على سعيد، بل وقف عليها وعلم حكمها من قبل.  الرابع أن أخت داود سمت معاملتها عينة، لأنها قالت: أريد أن تشتري متاعاً عينة، مع أن مقصودها ليس العينة الثنائية وإنما العينة الثلاثية أو التورق. فدل على أن التورق كان يسمى عينة. ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن سليمان التيمي: ”أن إياس بن معاوية كان يرى التورق يعني العينة.“
ويلاحظ أن الإمام سعيد بن المسيب رحمه الله حكم بحرمة معاملة تورق كان فيها البائع الأول قابضا للسلعة وأن المشتري المتورق قد تمكن من السلعة بعد شرائها، وهذا لا يحدث في التورق المنظم الذي تجريه البنوك.
وهناك روايات مماثلة يوردها الدكتور سامي السويلم، منها رواية ثانية عن الحسن بن يسار البصري، فقيه البصرة ومفتيها. ورواية ثالثة يرويها عن إمام دار الهجرة وعالم المدينة، الإمام مالك بن أنس، ورواية رابعة عن صاحب أبي حنيفة أحد أئمة المذهب الحنفي، الإمام محمد بن الحسن الشيباني.
والرواية الثانية التي يوردها الدكتور سامي السويلم:  يروى عن الحسن البصري "روى عبد الرزاق عن أبي كعب، عبد ربه بن عبيد الأزدي، أنه قال: "قلت للحسن: إني أبيع الحرير، فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق." فقال الحسن: ”لا تبعه، ولا تشتره، ولا ترشده، إلا أن ترشده إلى السوق“.  وروى أيضًا عن رزيق بن أبي سلمى أنه قال: سألت الحسن عن بيع الحرير، فقال: ”بع واتق الله“. قال: يبيعه لنفسه؟ قال: ”إذا بعته فلا تدل عليه أحدًا، ولا تكون منه في شيء. ادفع إليه متاعه ودعه.[7]"
ويرى الدكتور سامي أن جواب الحسن صريح في منع البائع بأجل من أن يتدخل بأي صورة من الصور لتحصيل النقد للمشتري، ولهذا قال: ”لا تكون منه في شيء، ادفع إليه متاعه ودعه.  وهذا يقتضي منع توسط البائع بأجل لمن يريد النقد حتى لو كان بمجرد الدلالة على من يشتريه نقدًا، وهذا صريح في منعه للتورق المنظم.
والرواية الثالثة التي يوردها الدكتور سامي: قال ابن القاسم: ”سألتُ مالكًا عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار إلى أجل، فإذا وجب البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد فإني لا أبصر البيع. فقال مالك: لا خير فيه، ونهى عنه.[8]
ويؤكد الدكتور سامي أن المعاملة التي سأل ابنُ القاسم عنها مالكاً هي عماد التورق المنظم، لأن المشتري بأجل يطلب من البائع أن يبيع السلعة نقدًا نيابة عنه لرجل آخر.  كما يذكر أن قول الإمام مالك هذا رحمه الله يوافق ما ورد عنه من مسائل التورق التي ذكرها عنه أصحابه، وتتفق جميعها على أن أي تدخل للبائع لتسهيل التورق للمتورق يجعل المعاملة محرمة[9].
ويرى الدكتور سامي السويلم أن تلك الروايات تدل على أن هذه المعاملة كانت معروفة منذ القرن الأول الهجري، وأن السلف الصالح كان لهم موقف حاسم منها بالمنع المطلق،
كما يرى أن اتفاق هؤلاء الأئمة العلماء على منع هذه المعاملة، مع تباين مناهجهم، ما بين أهل الرأي وأهل الحديث، وتعدد مدارسهم، ما بين المدينة إلى البصرة إلى الكوفة، يشير إلى أن منعها يستند إلى أصل صحيح يتفقون عليه جميعاً، ألا وهو منع العينة وذمها، إذ يقتضي هذا سد الباب أمام اتخاذ البيع ذريعة للحصول على النقد الحاضر بدين في الذمة أكثر منه.  وأن فتاواهم تمنع توسط البائع لتحصيل النقد حتى بدون تواطؤ أو اتفاق مسبق بين المتورق وبين البائع.
ويقول الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية القانون بجامعة الخرطوم[10] أن التورق المصرفي المنظم لا يجوز شرعا عند جميع الفقهاء. ولا يدخل في صور التورق الفردي الذي أجازه بعض الفقهاء.، لأنه يدخل في بيع العينة الذي منعه جمهور الفقهاء، فالمصرف هو في النهاية يبيع السلعة للمتورق نسيئة بأكثر من ثمنها نقدا.
ويقول أيضا أن التورق المصرفي الذي يعتمد على بيع المرابحة ليس بديلا شرعيا للقرض بفائدة، وإنما هو شبيه به، ومثيل له. وما عملية التــورق المصرفي إلا استحلال للربــا باسم البيع الذي اخـبرنا بـه النبي صلى الله عليه وسـلم في قوله: "يأتي على النــاس زمان يستحلون الربا بالبيع."
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم العثمان[11] أن التورق المصرفي المنظم لا يجوز لعدة أسباب.  الأول أن المستورق لا يقصد السلعة ، وإنما يقصد النقد، والبيع الحاصل بيع صوري، فتؤول المسألة إلى نقود حالَّة بنقود مؤجلة أكثر منها.   ومما يدل على صورية البيع  أن البنك لا يقبض السلع الدولية قبضاً حقيقيّاً، ولا يقبض الإيصالات الأصلية للمخازن التي تودع فيها هذه السلع.  كما أن المستورق لا يقبض السلعة قبضاً حقيقيّاً ولا حكميّاً، ومن ثم فهو يبيع ما لم يقبض، بل ما لم يُعيَّن ؛ لأن ما يبيعه البنك على العميل جزء مما تملكه البنك مما هو محدد برقم الصنف ، وهذا الرقم لا يكون للأجزاء الصغيرة ، ولكنه رقم للوحدة الكبيرة التي يجزؤها البنك على المتورقين .
والثاني أن التوكيل للبنك في التورق المنظم ينافي مقتضى عقد الوكالة، لأن ما يعمله البنك باعتباره وكيلاً ينافي مصلحة المستورق ، فهو يبيع السلعة بثمن أقل من الثمن الذي اشترى به المستورق.  وانضمام الوكالة إلى التورق شرط وإن لم يصرح به، فإنه لولا هذه الوكالة لما قبل المستورق بالشراء من البنك ابتداء .
والثالث ضمان المشتري النهائي، إذ يتفق البنك مع طرف مستقل يلتزم بشراء السلع التي يتوسط فيها ، وهذا الالتزام ضمان للسعر المباع ألا يتجاوز حدوداً معينة، حماية من تقلب الأسعار ، ويقابل هذا الضمان التزام البنك بالبيع عليه، بمعنى أنه لا يحق للبنك أن يبيع السلع في السوق حتى ولو ارتفع سعرها المتفق عليه مع المشتري الثاني، وبذلك يكون هذا الضمان من الطرفين: من البنك بالبيع على المشتري الثاني، ومن المشتري بالشراء بالثمن المحدد .
والرابع مخالفة التورق المنظم للتورق الفردي الذي أجازه جمهور الفقهاء ، وهذه المخالفة من عدة وجوه، أولها أن البنك يتولى بيع السلعة التي اشتريت منه لمن يشاء، في حين أن المستورق هو الذي يتولى البيع في التورق الفردي ، وليس للبائع الأول علاقة ببيع السلعة ولا بالمشتري النهائي.  وثانيها أن وجود اتفاق سابق بين البنك والمشتري النهائي يتضمن شراء ما يعرضه البنك من سلع بالثمن الذي اشتراها به المصرف كما تقدم، أما في التورق الفردي فالمستورق هو الذي يبيع سلعته بمثل الثمن الذي اشتراها به أو أقل أو أكثر . وثالثها أن التورق المنظم يدخل في بيع العينة المحرم، لأن البنك هو مصدر السيولة للمستورق في الحالتين، فالنقد يحصل عن طريقه وبواسطته، ولولا علم المشتري بأن البنك سيوفر له النقد الحاضر لاحقاً لما أقبل على هذا العمل ابتداء .
ويتفق الشيخ خالد المشيقح والدكتور على السالوس[12]، والدكتور سامي سويلم[13]، والدكتور عبد الله بن حسن السعيدي[14] مع الشيخ عبد الرحمن العثمان ، والدكتور محمد بن عبد الله الشباني، في تحريم التورق.
ومن المعروف أن الحكم الشرعي على شيء رهن بما له من مآلات.  وللتورق مآلات خطيرة على الاقتصاد ككل عامة وصناعة التمويل الإسلامي خاصة.
فمن آثاره السلبية على الاقتصاد، أنه يفتح الباب إلى أن تكتسب الديون التي تنتج عن التمويل الإسلامي صفات الديون الربوية.  فالديون الناتجة عن التمويل الإسلامي لا يمكن تداولها.  وفي حالة الإعسار المؤقت، تعاد جدولتها دون زيادة في قيمتها.  فالدين متى تحددت قيمته عند انعقاد المرابحة أو البيع بثمن آجل، لا يجوز أن تزيد قيمته بتاتا.  إلا أنه عند حدوث الإعسار المؤقت، ومع شيوع التورق المؤسسي، قد يجد المدين نفسه مرغما على أن يتورق لسداد دينه، وسيرغمه البنك على ذلك، لأنه سوف يجد في ذلك فرصة لزيادة أرباحه. وبالتالي تزيد قيمة الدين مقابل زيادة الأجل.  وقد يتكرر التورق عدة مرات، ويتزايد الدين في كل مرة.  وبعد أن قدم لنا دعاة المنتجات المشبوهة منتج التورق، سوف يجدون الفرصة سانحة للتمادي أكثر وأكثر بتقديم منتج تورق التورق.  وهذا بالطبع سوف يضع الاقتصاد الإسلامي في مواجهة أزمة ديون مثل تلك التي يواجهها الاقتصاد الربوي.
ومن مزايا التمويل الإسلامي أنه لا يحتوي على سوق منظمة ومتكاملة لتداول النقود، مثل سوق السندات المعاصر.  أما إذا شاع التورق، وشاع معه تبادل النقد الحال بالنقد الآجل، عاد إلى الاقتصاد سوق النقود،  فتصبح للنقود الحالة قيمة إضافية مقابل النقود الآجلة، وإن كانت لا تسمى فائدة، فهي الفائدة بعينها.  وبالتالي يكون للنقود سعر يدفع الناس إلى الاقتصاد في استخدامها، واستبدال الموارد الحقيقية التي تنتج، بالنقود التي لا تلد نقودا.  الأمر الذي يضعف الكفاءة الاقتصادية ويضيع على المجتمع ما يمكن للموارد الحقيقية أن تقدمه من إنتاج. 
ومن المعروف من الناحية الاقتصادية، أن المصارف الإسلامية بوسعها أن تستخدم المشاركة جنبا إلى جنب مع أساليب التمويل الأخرى، مما يجعلها قريبة الشبه بالمصارف الشاملة، ويمكنها من تلافي الكثير من المخاطر التي تواجهها البنوك الربوية.  أما إذا عزفت البنوك الإسلامية عن أساليب التمويل الإسلامية واستخدمت التورق، فأنها لن تستفيد من مميزات الصيرفة الشاملة وما يصاحبها من تقليل مخاطر التمويل.
ومن المعروف أيضا أن التمويل الإسلامي يبني جسرا قويا بين النشاط السلعي (الإنتاج والتبادل) والنشاط المالي (التمويل).  إذ يؤدي استخدام أساليب التمويل الإسلامية إلى أن طالبي التمويل لا يحصلون على نقود، وإنما يحصلون على سلع وخدمات.  وبالتالي، فإن التمويل يصاحبه زيادة في الطلب وحفز لعرض المزيد من السلع والخدمات.  فيصبح بذلك النشاط السلعي والمالي توأمين متلازمين.  وهذا له فوائد جمة من حيث توجيه الاقتصاد نحو التنمية والإنتاج، بدلا من المضاربة المذمومة على الأسعار.
والتورق يقطع ذلك الجسر، ويفصل بين التمويل من ناحية والإنتاج والتبادل من ناحية أخرى، ويفوت على الاقتصاد ما يتصل بذلك الجسر من منافع.
ومن الآثار السلبية على التمويل الإسلامي، أن التورق سهل وقليل التكاليف.  إذ أنه يعتمد على توقيع عقود شكلية غرضها تنفيذ عقد ربوي باطل.  وبالتالي فإن البنوك سوف تتحول تدريجيا عن أساليب التمويل الإسلامية المعروفة إلى التورق.  حتى يصبح التورق مثل البقعة السوداء التي تمتص الأجرام السماوية من حولها.  وبذلك تكون نهاية التمويل الإسلامي وتحوله إلى تمويل ربوي خال من أي مضمون شرعي.
‌و. قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع للرابطة
أصدر المجمعِ الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي عدة قرارات أهمها ما يلي:
أولا: قرار المجمعِ الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة خلال 19- 23/10/1424هـ (الموافق 13-17/12/2003م) ينص على ما يلي:
" بعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع ، والمناقشات التي دارت حوله ، تبيَّن للمجلس أن التورق الذي تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر هو :
قيام المصرف بعمل نمطي يتم فيه ترتيب بيع سلعة (ليست من الذهب أو الفضة) من أسواق السلع العالمية أو غيرها ، على المستورق بثمن آجل ، على أن يلتزم المصرف - إما بشرط في العقد أو بحكم العرف والعادة - بأن ينوب عنه في بيعها على مشتر آخر بثمن حاضر ، وتسليم ثمنها للمستورق .
وبعد النظر والدراسة، قرر مجلس المجمع ما يلي:
أولاً : عدم جواز التورق الذي سبق توصيفه في التمهيد للأمور الآتية :
1. أن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعاً ، سواء أكان الالتزام مشروطاً صراحة ، أم بحكم العرف والعادة المتبعة .
2. أن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة.
3. أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة من البنك للمستورق، وعملية البيع والشراء تكون صورية في معظم أحوالها .
ثانيا: قرار المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة خلال 22ـ27/شوال/1428هـ (الموافق3ـ 8/نوفمبر /2007م).  نظر مجلس المجمع في موضوع: ( المنتج البديل عن الوديعة لأجل) ، والذي تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر تحت أسماء عديدة ، منها: المرابحة العكسية ، والتورق العكسي أو مقلوب التورق، والاستثمار المباشر، والاستثمار بالمرابحة ، ونحوها من الأسماء المحدثة أو التي يمكن إحداثها.
والصورة الشائعة لهذا المنتج تقوم على ما يلي:
1. توكيل العميل (المودع) المصرف في شراء سلعة محددة، وتسليم العميل للمصرف الثمن حاضراً
2. ثم شراء المصرف للسلعة من العميل بثمن مؤجل، وبهامش ربح يجري الاتفاق عليه.
وبعد الاستماع إلى البحوث والمناقشات المستفيضة حول هذا الموضوع ، قرر المجلس عدم جواز هذه المعاملة؛ لما يلي:
1. أن هذه المعاملة مماثلة لمسألة العينة المحرمة شرعاً ، من جهة كون السلعة المبيعة ليست مقصودة لذاتها ، فتأخذ حكمها ، خصوصاً أن المصرف يلتزم للعميل بشراء هذه السلعة منه.
2. أن هذه المعاملة تدخل في مفهوم (التورق المنظم) وقد سبق للمجمع أن قرر تحريم التورق المنظم بقراره الثاني في دورته السابعة عشرة ، وما علل به منع التورق المصرفي من علل يوجد في هذه المعاملة.
3. أن هذه المعاملة تنافي الهدف من التمويل الإسلامي، القائم على ربط التمويل بالنشاط الحقيقي، بما يعزز النمو والرخاء الاقتصادي.
والمجلس إذ يقدر جهود المصارف الإسلامية في رفع بلوى الربا عن الأمة الإسلامية، ويؤكد على أهمية التطبيق الصحيح للمعاملات المشروعة والابتعاد عن المعاملات المشبوهة أو الصورية التي تؤدي إلى الربا المحرم فإنه يوصي بما يلي:
1. أن تحرص المصارف والمؤسسات المالية علــى تجنب الربا بكافة صوره وأشكاله؛ امتثالاً لقوله سبحانه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ).
2. تأكيد دور المجامع الفقهية، والهيئات العلمية المستقلة ، في ترشيد وتوجيه مسيرة المصارف الإسلامية؛ لتحقيق مقاصد وأهداف الاقتصادي الإسلامي.
3. إيجاد هيئة عليا في البنك المركزي في كل دولة إسلامية ، مستقلة عن المصارف التجارية ، تتكون من العلماء الشرعيين والخبراء الماليين ؛ لتكون مرجعاً للمصارف الإسلامية ، والتأكد من أعمالها وفق الشريعة الإسلامية.
‌ز. قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي
القرار رقم 179 (5/19) بشأن التورق: حقيقته، أنواعه (الفقهي المعروف والمصرفي المنظم)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته التاسعة عشرة في إمارة الشارقة (دولة الإمارات العربية المتحدة) من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430هـ، الموافق 26 - 30 نيسان (إبريل) 2009م،
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع التورق: حقيقته، أنواعه (الفقهي المعروف والمصرفي المنظم)، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله،
وبعد الاطلاع على قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة بهذا الخصوص،
قرر ما يلي:
أولاً: أنواع التورق وأحكامها:
(1) التورق في اصطلاح الفقهاء: هو شراء شخص (المستورق) سلعة بثمن مؤجل من أجل أن يبيعها نقداً بثمن أقل غالباً إلى غير من اشتُريت منه بقصد الحصول على النقد. وهذا التورق جائز شرعاً، شرط أن يكون مستوفياً لشروط البيع المقررة شرعاً.
(2) التورق المنظم في الاصطلاح المعاصر: هو شراء المستورق سلعة من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمن مؤجل يتولى البائع (المموّل) ترتيب بيعها، إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورق مع البائع على ذلك، وذلك بثمن حال أقل غالباً.
(3) التورق العكسي: هو صورة التورق المنظم نفسها مع كون المستورق هو المؤسسة والممول هو العميل.
ثانياً: لا يجوز التورقان (المنظم و العكسي) وذلك لأن فيهما تواطؤاً بين الممول والمستورق، صراحة أو ضمناً أو عرفاً، تحايلاً لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة وهو ربا.
ويوصي بما يلي:
(أ) التأكيد على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية باستخدام صيغ الاستثمار والتمويل المشروعة في جميع أعمالها، وتجنب الصيغ المحرمة والمشبوهة التزاماً بالضوابط الشرعية بما يحقق مقاصد الشريعة الغراء، ويجلي فضيلة الاقتصاد الإسلامي للعالم الذي يعاني من التقلبات والكوارث الاقتصادية المرة تلو الأخرى.
(ب) تشجيع القرض الحسن لتجنيب المحتاجين للجوء للتورق. وإنشاء المؤسسات المالية الإسلامية صناديق للقرض الحسن.
والله أعلم


الخلاصة

يمكن أن نستخلص مما سبق عدة أمور:
الأول: أن التمويل الإسلامي له أسلوب فريد يختلف تماما عن التمويل التقليدي، وأنه يحقق مصالح حقيقية للاقتصاد عامة ولقطاع التمويل خاصة.
الثاني: أن التمويل الإسلامي قد شب عن الطوق وصار قادرا على منافسة التمويل التقليدي منافسة فعالة، إذا توافر تكافؤ الفرص.  وأن هذا يحدث فعلا في منطقة الخليج.
الثالث: أن صناعة التمويل الإسلامي تعاني من قلة الموارد البشرية، كما تعاني من الدخلاء الذين يلبسون عباءة علماء الشريعة دون أن يكونوا منهم، وقد أدى وجود الدخلاء مع غفلة بعض علماء الشريعة عن مآلات بعض ما يصدرونه من أحكام إلى تسرب المنتجات سيئة السمعة إلى ساحة التمويل الإسلامي.
الرابع: أن التورق من أخطر المنتجات سيئة السمعة التي تهدد مستقبل التمويل الإسلامي.
الخامس: أن القول بأن جمهور الفقهاء أقروا التورق الفردي خطأ شائع يجب أن يتوقف، وأن الصحيح أن السلف اعتبروا التورق الفردي من أبواب العينة، وقالوا بتحريمه.
السادس: أن التورق المنظم، وهو الأسوأ بين المنتجات سيئة السمعة كان معروفا لدى  السلف، وأنهم حرموه بصفته عينة لا خلاف عليها.
السابع: أنه لا بد من وضع شروط لحوكمة الهيئات الشرعية من قبل السلطات الرقابية، وأن يخرج الدخلاء من تلك الهيئات.
الثامن: أنه من الواجب أن نضع تصنيفا لكليات الشريعة في العالم، حتى يمكننا أن نختار علماء الشريعة من بين حملة الدكتوراه المتخرجين من الكليات العشر أو العشرين أو حتى الثلاثين الأوائل.  وأن يحدث التصنيف بصورة دورية.  ورابطة العالم الإسلامي مدعوة للقيام بهذه المهمة النبيلة بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية.
التاسع: يجب على المتعاملين مع المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية التحري عن مؤهلات أعضاء الهيئات الشرعية، وبناء ثقتهم فيها على أساس تلك المؤهلات بالإضافة إلى مدى انغماس المؤسسات في المنتجات سيئة السمعة.





[1]  سامي بن إبراهيم السويلم، " موقف السلف من التورق المنظم، "سبتمبر 2004
[2]  دز علي السالوس، |العينة و التورق والتورق المصرفي، المجمعِ الفقهي الإسلامي ، رابطة العالم الإسلامي, 2003.
[3]  اعلام الموقعين ج3 ص22.
[4] ج29 ص 447.
[5]  سامي بن إبراهيم السويلم، " موقف السلف من التورق المنظم، "سبتمبر 2004.
[6]  -٢٧٥/ ٢٩٥ ؛ المصنف لابن أبي شيبة، الدار السلفية، ٧ -٢٩٤/ ٣] المصنف لعبد الرزاق، المكتب الإسلامي، ٨ ] صحيح إلى سعيد بن المسيب. ووقع عند عبد الرزاق ”عبد الملك بن أبي عاصم“ بدل ”داود“، والترجيح من ابن أبي شيبة.
[7]   المصنف ٨/ ٢٩٥   . والرواية الأولى  إسنادها صحيح. والرواية الثانية فيها ”رزيق بن أبي سلمى“، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٣/٥٠٥ وسكت عليه. وجاء في الأصل في الرواية الثانية: ”إذا ابتعته“، والتصحيح من حاشية التحقيق.
[8] المدونة ٤/١٢٥، بحث ”التورق كما تجريه المصارف“ د. عبد الله السعيدي، ص ١٨.
[9]  د. سامي السويلم، ”التورق والتورق المنظم: دراسة تأصيلية،“ المجمعِ الفقهي الإسلامي ، رابطة العالم الإسلامي, 2003.
[10]  د. محمد الصديق الضرير، "حكم التورق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر،" المجمعِ الفقهي الإسلامي ، رابطة العالم الإسلامي, 2003.
[11]  عبد الرحمن بن إبراهيم العثمان، " التورق المصرفي المنظم، "،" المجمعِ الفقهي الإسلامي ، رابطة العالم الإسلامي, 2003.
[12] د. علي السالوس، "العينة والتورق المصرفي،" المجمعِ الفقهي الإسلامي ، رابطة العالم الإسلامي, 2003..
[13]  د. سامي بن ابراهيم السويلم، "التورق والتورق المنظم: دراسة تأصيلية،" المجمعِ الفقهي الإسلامي ، رابطة العالم الإسلامي, 2003.
[14] د. حسن بن محمد السعيدي،"التورق كما تجريه المصارف في الوقت الحاضر (التورق المنظم، دراسة تصويرية فقعية)،" المجمعِ الفقهي الإسلامي ، رابطة العالم الإسلامي, 2003.

No comments: