Sunday, June 9, 2013

المشكلة المصرية بعد زوال المملكة العسكرية

المشكلة المصرية بعد زوال المملكة العسكرية

مصر دخلت عصر الممالك العسكرية عام 1952، بعد أن انحسم الصراع على السلطة بين دعاة الديمقراطية ودعاة الدكتاتورية العسكرية لصالح الحكم الشمولي. وكن من بين دعاة الديمقراطية حينئذ الإخوان المسلمون والأحزاب الليبرالية كالوفد وغيرها، وهؤلاء نالهم الاستبعاد والتنكيل طوال ستين عاما حتى انتهى حكم الرئيس المنخلع. وكان للنظام العسكري بعض الأعمال التي انبهر بها المصريون في حينه. أهمها الإصلاح الزراعي، وتأميم القناة والدعوة إلى الوحدة العربية، والعمل على تحرير فلسطين، وتطوير دور إقليمي لمصر في منطقة الشرق الأوسط.
أما الإصلاح الزراعي فقد كان أول إيجابياته هو تمليك الأرض للعامل الزراعي بدلا من استئجارها من مالكها، وكان من سلبياته أن الدولة لم تعوض الملاك بما فيه الكفاية، وأنه عرّض الزراعة المصرية لتفتيت الملكيات وخفض الاستثمارات الرأسمالية في الزراعة. كما أنه حوّل النظر عن توسيع المساحة المزروعة.
وأما تأميم القناة فقد جاء قبل انتهاء عقد امتياز شركة قناة السويس بإثنى عشر عاما، حيث كان سينتهي عام 1968، وتعود القناة لمصر دون تعويضات للملاك الأجانب، ودون تجميد لأرصدة مصر في الخارج، ودون حرب مدمرة طالت الآلة العسكرية والقناة نفسها، وفتحت الأبواب لعبور السفن الاسرائيلية لخليج العقبة وضمان ذلك بوضع قوات دولية فى سيناء بقرار دولى لم يشأ عبد الناصر أن يعلنه للشعب وقتها وكأن الامر لايعنيه.
أما الدعوة للوحدة العربية، فقد قام بجانبها تقسيم ناصري للعرب بين الرجعية والتقدمية، وأدخلت مصر في حرب ضروس في اليمن دون مبرر يذكر، أضعفت الجيش والخزانة المصرية وهيأت الظروف لأكبر نكسة عسكرية في تاريخ مصر والعرب عام 1967.
وأما العمل على تحرير فلسطين، فقد انتهى به تخبط الدكتاتورية عسكريا وسياسيا أن ضاع ما تبقى من فلسطين بعد اغتصابها، مع ضياع سيناء المصرية والجولان السوري.
وأما عن تطوير دور إقليمي لمصر، فقد تحقق في ذلك نجاح محدود كان من الممكن أن يكون كبيرا، لولا الانخراط في صراع قسّم الدول العربية، وأضعف التلاحم العربي.
ولكن اسوء ما أتت به الدكتاتورية العسكرية (الناصرية الساداتية المباركية) هو انتهاك كرامة الإنسان المصري، فبعد أن كان المعارض المصري في عهد الملكية يحال إلى "السجن السياسي" بعيدا عن المجرمين، ويأتيه طعامه ودواؤه من منزله، وتقابله الصحافة حينما تريد، تحول المعارض السياسي إلى مجرم يعذب وتهدر كرامته وعِرضه في السجون، وتهدد عائلته، ويفقد مصدر رزقه، ويسجن بلا محاكمة عشرات السنين. وقد تأصل هذا النظام القمعي في مصر حتى أصبح من الصعب اقتلاعه حتى الآن. كما انتشر في كثير من البلدان العربية والأفريقية.
وفي نفس الدرجة من السوء، جاء تأميم الإعلام، وتحويله بوقاً للدكتاتورية العسكرية، يعتمد التضليل وتشويش العقول، وتركيب الأكاذيب ونشرها بين الشعب، وانتقاد الفهم الصحيح للدين.
كما استخدم النظام الدكتاتوري الفتنة الطائفية بشكل منظم لشق صفوف المصريين وزرع الشكوك بينهم، وظهرت الفتن الطائفية كلما وقع النظام في مشكلة يريد أن يصرف أنظار الجمهور عنها.
ثم قامت ثورة يناير لتأسيس نظام ديمقراطي جديد يقوم على الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. واعترض تحقيق أهداف الثورة عدة عقبات أهمها: انقسام العقل المصري بعد تشويه مفهوم الدين، وعدم اعتياد المصريين على الحرية وعلى استخدام آليات الديمقراطية بعد فترة طويلة من العبودية تحت الحكم العسكري.
ويعود انقسام العقل المصري بصفة أساسية للإعلام الذي تم تسخيره في خدمة الدولة، والذي حاول غسل الأمخاخ، فتكونت طبقة تربت على أفكار فلاسفة النظام ومبرريه، تعبد الفرد وتدعو لاتباع الزعامة الملهمة، وتحتقر الممارسات الديمقراطية، ولا تثق في حكمة الشعب وقراراته السياسية من خلال ممثليه المنتخبين. هذا الإعلام لم يتغير مع تغير الحكام، فما زال يعتمد الخبر المشوه والتحليل المتحيز ونشر رأيه مع تجاهل الرأي الآخر. وانضم إليه الإعلام الخاص المرأي والمكتوب، ليقدم أسوء ما عرفه العالم من إعلام غير مهني، حتى أصبح الإعلام المصري في غالبه جزءا من الدولة العميقة أو الرجعية الجديدة التي تفرّق المصريين وتساعد على التحارب والتشاكس والهدم، بدلا من التعاون والبناء.
أما محاولة تغيير مفهوم الدين، فالدين يعني أسلوب حياة تضم الشعائر أي العبادات، والشرائع التي تضع القواعد العامة للسلك الفردي والجماعي في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع، وتترك التفاصيل للعقل البشري.  فلقد روج الإعلام المصري طوالة ستين عاما أن الدين شعائر فقط، وأنه لا دين في السياسة والاقتصاد ولا اقتصاد ولا سياسة في الدين، وقدمت المبادئ الإسلامية التي تحكم السلوك السياسي وكأنها أسلوب لتكوين دولة الحق الإلهي كما كان يحدث في الدولة الرومانية تحت ظل الكنيسة الغربية، أو ما يحدث الآن في إيران في ظل مهزلة ولاية الفقيه.  وساعد على نشر هذه الصورة المشوهة تخلف الخطاب الديني عند البعض ووصوله لحد التهافت على إنكار كون الشعب مصدر السلطات.  وبذلك انقسم المصريون إلى من لا يرى مانعا في التعامل بالربا أو تأليه الحاكم وتوريث الحكم، ومنهم من يخشى إن فعل ذلك أن ينتهي به الأمر إلى عذاب جهنم وبئس المصير.
ومن أعظم السلبيات التي يعيشها المصريون حاليا هو الظن بأن الثورة جاءت لكي يكون تغيير الحكام ممكنا من الشوارع والميادين، وأن التظاهر مع استخدام المولوتوف والخرطوش وقتل الشرطة وحرق الممتلكات وسيلة مشروعة للكفاح السياسي. ناسين أن الثورة جاءت لتأسيس الحرية والكرامة التي تمارس بآليات ديمقراطية حديثة، تعارفت عليها الشعوب المتقدمة.
والآن نجد أن مصر تقودها نخبة ثلثها تقريبا من العلمان والليبرال الذين يختصرون الدين في الشعائر دون الشرائع، و ثلثاها ممن يعتقدون بوجوب جمع الشعائر مع الشرائع في تطبيق معاصر، فيهم أقلية محدودة وقابلة للحوار يعتقدون في ما يشبه الدكتاتورية الدينية.  ولكن جانبا النخبة لا يتقابلان في رأي أو عمل، وكلما اجتمعا تفرقا على أسوء ما يكون. فما الحل إذن؟  هناك بدائل بعضها مضحك وبعضها مبكٍ، وبعضها عملي وبعضها ممعن في المثالية فما هي البدائل وأيها نختار؟
البديل الأول، وهو من المضحكات المبكيات، أن ينتقل الثلث العلماني والليبرالي إلى الإمارات العربية المتحدة للعيش في كنف الفريق أحمد شفيق وبطانته، لكي يحكم الإسلاميون دون منازع. والبديل الثاني الذي هو أيضا من المضحكات المبكيات أن يرحل الثلثان اللذان يمثلان الإسلاميين إلى الصحراء مع متمردي البوليزاريو ليقيموا دولة الشعائر والشرائع، ويتركو مصر ليحكمها الليبرال والعلمان دون منازع.
والبديل الثالث الذي هو أقرب للإبكاء منه إلى الإضحاك، أن يستمر الليبرال والعلمان في نشر الفوضى وحشد الميادين لكي يتزايد تدهور الاقتصاد ومعاناة الفقير، فتقوم ثورة جياع يستولي بعدها الليبرال والعلمان على الحكم، ثم يقوم الإسلاميون برد الصاع صاعين حشدا للميادين وإثارة للفوضى حتى يتم إسقاط الليبرال والعلمان ويعودوا للحكم، وهكذا دواليك. وفي كل مرة تتدهور مصر اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا، إلى أن تتحول لدولة فاشلة بلا وجود حقيقي كالصومال مثلا.
والبديل الرابع وهو المثالي، أن يحتكم الجميع للانتخابات القادمة لمجلس النواب ثم مجلس الشورى، وتواجه مؤسسة الرئاسة عند انقضاء مدتها تنافسا شريفا على الرئاسة.  وهو أمر لن يقبل به الليبرال والعلمان، لأنهم لا يثقون في الشعب المصري، الذي يظنون أنه سوف يبيع أصواته مقابل الزيت والدقيق. مما يجعلهم الخاسرين لا محالة.
فما العمل، وما هو الحل للمشكلة المصرية بعد زوال الملكية العسكرية؟ فكروا معنا واقدحوا عقولكم، لعل الفرج قريب.


No comments: