Sunday, July 28, 2013

نحن النخبة: ديمقراطيون أم فاشيون؟

نحن النخبة: ديمقراطيون أم فاشيون؟
تتجه مصر بسرعة إلى انقلاب في الأوضاع السياسية، من ثورة قامت في 25 يناير نتج عنها تحرك حثيث وإن واجه صعوبات، نحو بناء دولة ديمقراطية مدنية، وبالرغم من فشل التحرك في إقامة سلطة تشريعية منتخبة، فقد نجح في تنصيب رئيس منتخب، وصياغة دستور هو أحسن دساتير مصر حتى الآن، وإن كانت تشوبه بعض الهنات التي تسهل معالجتها بتعديل قليل من مواده، وكان التحرك الديمقراطي يسير نحو انتخاب مجلس للنواب، ثم مجلس للشورى لتكتمل أركان الدولة الديمقراطية.
وكان من خصائص التحرك الديمقراطي منذ تنصيب مرسي، أن المعارضة أبدت من البداية رفضها للتعاون مع مرسي، شاعرة أنها انتخبته فقط لتتخلص من أحم شفيق، ثم بدأت تتهمه بأنه ليس رئيسا للجميع، وأنه يهتم بتوزيع الغنائم على أعضاء جماعته التي يتلقى أوامره منها، أكثر مما يهتم بلم شمل المصريين تحت مظلة الرئاسة، وشعر مرسي وأعوانه من ناحية أخرى أنهم يواجهون معارضة المناكفة والاستنزاف، التي نظمت حوالي 8000 مظاهرة و24 مليونية خلال عام واحد، وهو رقم قياسي بشتى المقاييس. كما أن القضاء اتخذ موقفا عدائيا تجاه الرئاسة، وقام الإعلام بدوره المعتاد في التضليل ومحاولة غسل الأمخاخ لمصلحة الثورة المضادة.
وإزاء هذا الاستقطاب، كان من المفروض أن تنظر النخبة في الدستور، لترى إذا كان من الممكن أن يقدم حلولا لإنهاء الاستقطاب، ولإعادة اللحمة بين قوى الثورة الإسلامية والعلمانية-الليبرالية. وكان هذا الحل موجودا بالفعل. فالدستور أعطى مجلس النواب الحق في محاكمة الرئيس، ومَنَع الرئيس من حل المجلس دون استفتاء الشعب، فلو رفض الشعب الاستفتاء، يجبر الرئيس على الاستقالة. وكان من الواضح أن المعارضة الليبرالية-العلمانية قد تمكنت بمساعدة الإعلام من تجييش الرأي العام ضد الأداء المتواضع للرئيس وارتباطه بجماعة الإخوان المسلمين. وأنه لو حدثت انتخابات قريبة، لكان حظ الليبرالية العلمانية هو الأوفر في مقاعد مجلس النواب، مما يزيد من قدرتها على التخلص من الرئيس إن أرادوا ومن التأثير على تعديل مواد الدستور الإثنتى عشرة غير المتوافق عليها.
ولكن المفاجأة كانت في عدم اللجوء للدستور، وإنما تجييش الحشود في الشارع للضغط على القيادة العسكرية للقيام بانقلاب عسكري، وقد حدث. فاستلم العسكر الحكم، وعطلوا الدستور، واعتقلوا الرئيس، وعينوا رئيسا مؤقتا ونائبا له، ووزارة انتقالية في ظل إعلان دستوري مختلف عليه، بل لم يُستفت فيه الشعب على الإطلاق. وهكذا استبدلت الدكتاتورية العسكرية بالشرعية الدستورية، وقضى تماما على المكسب الديمقراطي لثورة يناير، واصبح الأمر معلقا على عاملين لم يكونا موجودين قبل الانقلاب: مصالح القيادة العسكرية من ناحية، ودور الفلول والثورة المضادة من ناحية أخرى.
لا يخفى أن القيادة العسكرية في مصر، بالإضافة إلى حيازتها للقوة العسكرية، تسيطر على نسبة مهمة من النشاط الاقتصادي، يعطيها قوة إضافية من ناحية، كما يجعل لها مصالح ثابتة في توجيه القرارات الاقتصادية والسياسية للبلاد. ولقد جاءت المواد الخاصة بالجوانب العسكرية في دستور الثورة مخيبة للآمال، لأنها أبقت على تلك المصالح دون تغيير، نتيجة لضغط القيادة العسكرية من ناحية، التي كانت ممثلة في الجمعية التأسيسية، وهو شيئ غريب، ولانصياع القوى السياسية دون استثناء لذلك الضغط. كما لا يخفى أن الحشد المطالب بالانقلاب العسكري لم يقتصر على القوى الليبرالية-العلمانية التي شاركت في الثورة، وإنما تعداها إلى مشاركة تكاد تكون مهيمنة من جانب فلول نظام مبارك الذي كان امتدادا للدكتاتورية العسكرية. وهذا قد يفسر المطالبة بانقلاب عسكري بدلا من الاقتصار على تفعيل الشرعية الدستورية. ومن المعروف أن الفلول لن يؤيدوا بأي حال بناء ديمقراطية سليمة، لأنهم بطبعهم تربوا في مدرسة الفاشية لستين عاما منذ انقلاب 52. أما مشاركة حزب النور، فلم تكن ذات وزن سياسي، بل كانت انعكاسا لخشيته من المزيد من تدهور شعبيته.
ولذلك فإن الدور الذي تقوم به القيادة العسكرية والفلول سوف يمنع العودة للديمقراطية، وسوف يؤول إلى تأسيس دكتاتورية عسكرية تلعب فيها المؤسسات الديمقراطية دورا هامشيا. ولا أدري إذا كانت القوى الليبرالية-العلمانية تشعر بذلك الخطر، أو تستعد لمواجهة قادمة، قد تكون هي الخاسرة فيها.
ومن ناحية مرسي ومؤيديه، والداعين لعودة الشرعية الدستورية، فإنهم مازالوا يرفعون شعار عودة مرسي، وينسون الشرعية الدستورية التي هي الأساس الوحيد لحماية مكتسبات ثورة يناير. وكان من الأفضل دعوة الشعب المصري للالتفاف حول حماية مكتسبات الثورة وعودة الشرعية الدستورية، وبدلا من الدعوة لعودة مرسي، من الممكن أن تتم الدعوة لتقديم بديل يسهل تغيير الرئيس في إطار الشرعية الدستورية.
ولا أستطيع أن أنكر أن شجاعة وإصرار الداعين لعودة الشرعية الدستورية، بالرغم من المذابح التي سلطت عليهم، وسيل الدماء الذي جرى من  عروقهم. فهم مايزالون في ميادين القاهرة والمحافظات، يبدون تحديا عجيبا وإصرارا رائعا على تحمل كل المشاق في سبيل الدفاع عن الشرعية المسلوبة.
ولا تبدو النخبة السياسية العلمانية-الليبرالية متحمسة بالقدر الكافي لمواجهة خطر التحول لدكتاتورية عسكرية. بل إن الكثيرين مما أتحدث معهم يكادون يتحمسون لقائد الانقلاب العسكري كحاكم للبلاد، بنفس طريقة الفاشية العسكرية التي أصابت غالبية المصريين بعد انقلاب 52.
وتبدو مبادرة محمد سليم العوا وطارق البشري حلا مناسبا للخروج من الأزمة، لكن من غير المحتمل أن يوافق عليه الانقلابيون. لأن الحكم أصبح بأيديهم، ولأن مصالح الجيش والفلول لن تسمح بالنكوص للديمقراطية بعد أن قطعوا شوطا نحو الدكتاتورية العسكرية.
الأمر إذن يبقى معلقا على المفاوضات والاتصالات وراء الكواليس بين القوى السياسية، والتي لا أعلم عنها شيئا، لأنني لا أنتمي لأحد من تلك القوى. ولا أدري إذا كان الليبرال-العلمان ما يزالون مخلصون لثورة يناير، وما إذا كانوا على استعداد لبدء صراع مع الجيش والفلول لصالح مكتسبات الثورة. الأيام القادمة ستحمل الإجابة لهذه الأسئلة.
                                                            د. معبد الجارحي


Thursday, July 25, 2013

الفاشية الدينية وغير الدينية

الفاشية الدينية وغير الدينية
الفاشية تعني جمع مقاليد الحكم في يد شخص واحد أو مجموعة واحدة، مثال ذلك، جمع سلطات الدولة في يد "مجلس قيادة الثورة" بعد الانقلاب العسكري الأول عام 52، ثم جمعها في يد جمال عبد الناصر. وقد يكون تجميع مقاليد الحكم صريحا فجا، كما حدث في أوائل انقلاب يوليو 52، وقد يكون خفيا بعض الشئ، بعد أن أضيف بجانب جمال مجلس تشريعي شكلي وانتخابات مزورة، واستمرت هذه الفاشية المستترة بعض الشيئ إلى نهاية حكم مبارك.
ومن أمثلة الفاشية غير الدينية الحكم الفرعوني، وحكم هتلر في ألمانيا، وموسيليني في إيطاليا. أما الفاشية الدينية، فتعتمد على تقديس الحاكم واعتباره بمثابة ظل الله في الأرض، ومن الممكن أن نعتبر الحكم الفرعوني فاشية دينية، كما كان الحال في كنيسة روما، وكنيسة بيزنطة، والكنيسة القبطية في مصر والأرثوذكسية في روسيا واليونان وإثيوبيا. ومما يخفف من هذه الفاشية، أن حكم الكنيسة اقتصر عادة على العبادات، ولا يمتد للاقتصاد والسياسة، وإن كان من الممكن لراعي الكنيسة أن يفرض سلطانه في هذه المجالات، كما فعلت روما مع الدول الأوربية. وقد تعاملت الحركات الإصلاحية مع هذه الظاهرة، حيث تقتصر الكنائس البروتستانتية على الشئون الدينية، كما أن قدسية راعي الكنيسة قد تم التخفيف منها.
والفاشية الدينية ليس لها وجود في الإسلام، باستثناء المذهب الشيعي. فالحاكم لا يجمع السلطات جميعا في يده، وإنما تتوزع بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والفصل بين السلطات من الأمور المجمع عليها بين الفقهاء. والحاكم ليس ظل الله في الأرض، لأنه بشر يصيب ويخطئ، أما العصمة فهي للأنبياء. وكان المطبق في عهد الخلافة الرشيدة توزيع مقاليد الحكم بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. ولما تحولت الخلافة لملك عضود، أي لملوك يعضون على صولجانات الحكم بأسنانهم فلا يفلتونها، في عهد معاوية، وكان أغلب المسلمين ضد توريث الحكم، استخدم الحاكم القوة العسكرية لفرض رأيه، وعاد النظام إلى الفاشية غير الدينية، ولم تفلح كثرة الثورات والحروب بين المسلمين في العودة للخلافة الرشيدة، حيث تتوزع مقاليد الحكم بين السلطات الثلاث. وأصبح المسلمون ملكيين بالأمر الواقع.
ولكن بعض الدول الإسلامية استطاعت تكوين حكم ديمقراطي سليم نجح في إقامة دولة مدنية متطورة، واقتصاد منطلق، أهمها ماليزيا وتركيا.
أما الشيعة، فبعد انتصار ثورتهم ضد طغيان الشاه، تحولوا إلى الفاشية الدينية، بناء على رأي ضعيف لأقلية بين فقهاء الشيعة تؤيد ولاية الفقيه. فأصبح الخميني ومن بعده خامنئي الحاكم المطلق المعصوم، وتجمعت السلطات في يده، وإن كان يدير الدولة تحت إشرافه رئيس جمهورية ومجالس نيابية وقضاء، ولكن فكرة الحاكم ظل الله في الأرض بقيت متأصلة فيهم.
ولقد تولى مرسي الحكم وبجانبه سلطة نيابية (مجلس الشعب) كان من المفروض ان تراقبه، ولكن القضاء فاجأنا بحل المجلس فتحولت إليه السلطة التشريعية، وللأسف لم يكن موفقا في ممارستها، وكان للإعلانات الدستورية التي أصدرها صدى سيئ. وتمكنت الجمعية التأسيسية المنتخبة من المجلسين النيابيين من كتابة الدستور، ونزع السلطة التشريعية من مرسي وإعطائها مؤقتا لمجلس الشورى، ريثما يتم انتخاب مجلس النواب. وهنا عاد مرسي لوضعه الطبيعي، واقتصرت ممارساته على أعمال السلطة التنفيذية. أي أن الفاشية لم تمارس في مصر إلا خلال فترة حكم المجلس العسكري الذي حكم بعد ثورة 25 يناير. ولم تكن هذه الفاشية دينية، ولكنها كانت فاشية عسكرية، بناء على الأمر الواقع.
ولقد عادت هذه الفاشية في الانقلاب العسكري الثاني الذي تم في 3 يوليو 2013، وهي فاشية عسكرية تعود بنا لعصر حكم العسكر خلال عهد مبارك ومن قبله. فالسلطات جميعها مركزة في يد القائد العام للجيش، فهو قد عين الرئيس المؤقت والوزراء، بل وتدخل فس استدعاء وإرسال السفراء. هو الحاكب بأمره، وبيده صولجانات أو مقاليد الحكم.
هذه هي الفاشية، دينية كانت أو غير دينية، عسى أن يحرص المتحدثون على استخدام الألفاظ للدلالة على ما يقصدونه من معان، وليس لمجرد الهجوم بلا مبرر.

                                                            د. معبد علي الجارحي

Wednesday, July 24, 2013

ليت مصر مثل تركيا الآن

ليت مصر مثل تركيا الآن

مقال محمد السيد سليم خال من التحليل المنطقي ومليئ بالهجوم غير المبرر على مؤسس تركيا الأكثر حداثة، رجب طيب أردوغان. وهو ليس سلطانا عثمانيا كما يدعي الكاتب، الذي لا يفهم أن تركيا دولة مدنية ديمقراطية، وصلت إلى مستوى من ممارسة الديمقراطية نحسدها نحن في مصر عليه. كما أنه لم يكفر بتسمية ما حدث يوم 3 يوليو انقلابا عسكريا سافرا، فقد اتفق المراقبون والمحللون وحتى المسئولون في الدول من أوربا لأفريقيا على وصفه على حقيقته وهو انقلاب عسكري تجاوز الشرعية وهدد مصر بالعودة للدكتاتورية العسكرية التي بدأت منذ 60 عاما.  كما أن تركيا رأت أن الربيع العربي فرصة لتطوير الدول العربية ونقل شعوبها نحو الحرية والديمقراطية. وبدلا من أن نحمد لتركيا موقفها الشجاع في تأييد الربيع العربي، وشعورها بالمسئولية تجاهنا بناء على ما يجمعنا من تاريخ وقيم وحضارة مشتركة، يهاجمها الكاتب ويتهمها أنها تحاول السيطرة على مصر، وكأنها أمريكا أو اسرائيل. ولا يرى الكاتب غضاضة في تسمية ما حدث في 30 يونيو ثورة، بينما هو في الحقيقة دعوة سافرة إلى انقلاب، ونزوع للفاشية العسكرية النائمة بعد زوال حسني مبارك. لقد سلبت الدعوة إلى الانقلاب وما تلاها من انقلاب عسكري فعلي مصر من أهم منجزات ثورة يناير، وهو التخلص من حكم العسكر، والبدء في بناية دولة مدنية دستورية تحتكم إلى انتخابات نزيهة. وهذا ما فعلته تركيا، وليتنا نستطيع فعله، ليتنا مثل تركيا.

Tuesday, July 23, 2013

الانقلاب الثاني في ذكرى الانقلاب الأول

الانقلاب الثاني في ذكرى الانقلاب الأول
كنت مراهقا عندما قام جمال عبد الناصر بانقلابه العسكري في 23 يوليو عام 1952. وانبهرت مع أمثالي من الشباب بالعسكريين، وارتفع سقف توقعاتنا بالنسبة لمصر، حيث كان تعداد السكان لا يتجاوز 20 مليونا، وإمكانات النمو هائلة. وتوقعنا أن تتحسن الديمقراطية التي مارسناها في عهد الملك، حين كان سقف الحريات متوسطا، وكنا نتظاهر بحرية ونهتف ضد الملك والانجليز، وتطاردنا الشرطة أحيانا وتتجاهلنا أحيانا أخرى. وكان فهمنا للديمقراطية محدودا، وكنا نكره الأحزاب، ونرى أن اللعبة السياسية سمحت للملك الفاسد بتحويلها إلى لعبة كراسي موسيقية. ولذلك كنت وغيري من الشباب مستعدين لاعتناق الفاشية العسكرية، أي وضع صولجانات الحكم جميعها في يد العسكر الذين رأينا فيهم الطهارة والنزاهة.
وبالرغم من أن جمال اختار الحكم الشمولي ونبذ الديمقراطية، فإننا لم نبال كثيرا بذلك. ولعل أهم الأسباب أنه كان عبقريا في ضبط فكر الجمهور. فأمم الإعلام، وتمكن من توظيف أعلامه في تزيين الحكم المطلق وتدمير سمعة الأحزاب، وكان فارسه الأول محمد حسنين هيكل يطلع علينا كل أسبوع بعموده الذي فلسف فيه كل شيئ، وجعل من عبد الناصر صنما يعبد. كما أن عبد الناصر استخدم خبرته في عضويته في الجهاز السري للإخوان، في تكوين تنظيمات سرية، تجمع له المعلومات، وتعمل كقوة ضاربة في الشارع المصري ضد المعارضة.
وكان الإصلاح الزراعي وتأميم الصناعة مرتكزا لشعبيته. فمن ناحية، قضى على الملاك وإمكاناتهم في معارضته، ومن ناحية أخرى، أدخل في روع الفلاحين أنهم أصبحوا ملاكا بعد أن أعطاهم ملكيات صغيرة من خلال اغتصاب أرض الغير بلا مقابل يذكر، ومن ناحية ثالثة، حوّل العمال إلى مؤظفين في القطاع العام، تتحدد اجورهم على أسس سياسية وليست اقتصادية، لكي يعطيهم من المكاسب مالا يتناسب مع الإنتاجية، وبالتالي كانت المصانع الخاسرة توزع الأرباح على العمال كحق مكتسب. وأصبح هؤلاء جزءا من القوة السياسية الضاربة ضد المعارضة في الشارع.
وتمكن جمال من محاصرة أهم قوة معارضة له، وهي الإخوان المسلمين، واستفاد كثيرا من سابق عضويته في الجماعة وجهازها السري لنصب الفخاخ السياسية التي وقعت فيها بلا حذر.
ولعل من أقوى جوانب حكم جمال، أنه استخدم القضايا المتعلقة بالعلاقات الخارجية لحشد التأييد الشعبي، فتحدث عن القومية العربية، والوحدة، وتحرير فلسطين، ولكنه في الواقع قسم العرب لمعسكرين: تقدمي ورجعي حسب تعبيره، وترك الحكم وقد سقطت فلسطين بكاملها في يد الصهاينة. كما أنه استخدم الفنون إلى أبعد حد، فقد تغنى الشعراء ومؤلفي الأغاني وكبار نجوم الغناء بإسمه، وجعلوا منه اسطورة من خيال. كما استخدم فمه إلى أبعد الحدود، فقد كانت خطبه الطويلة المليئة بالتسريبات، تجمع المصريين البسطاء حول اجهزة الاستقبال ليستمتعوا بما فيها من انتصارات وهمية، وقصص مشوقة.
وكان من أهم الابتكارات السياسية لجمال استفادته من التجربة النازية في ألمانيا بتكوين جهاز للأمن يعتمد على الترويع والتعذيب بلا حدود، ويمارس الاعتقال دون محاكمات، وزيارة المنازل عند الفجر لخطف أرباب وربات الأسر، كل هذا مع نشر ثقافة التخابر، التي وصلت إلى حد أن يكتب الناس تقارير في اصدقائهم وأقربائهم كوسيلة لحماية أنفسهم أو التقرب للحكم، وبهذا اكتملت أركان الحكم القمعي. وكان الشباب أمثالي لا يستطيعون الاحتجاج والتظاهر والاعتصام، مما نجده الآن حقا طبيعيا، لأن ذلك يمكن أن يؤدي للاعتقال لعشرات السنين دون محاكمة، مع التعذيب والتنكييل بالنفس والأهل والأصدقاء.
وعندما سافرت للدراسة في الولايات المتحدة عام 1962، ذهلت بجهلي بما يدور في مصر، وبمدى التضليل والتجهيل وغسل الأدمغة الذي يتعرض له شعبنا المسكين. وكان من الطبيعي أن أشفى تدريجيا من الفاشية العسكرية، ويتجه تفكيري نحو الديمقراطية المبنية على آليات تضمن عدم التزوير، وشفافية التمويل، والبعد عن حكم مجموعات المصالح، الذي يتميز به الحكم في الولايات المتحدة.
ونظرا لأن حكم جمال القمعي كان يعتمد على أهل الثقة ويتجاهل أهل المعرفة، فقد وقع في أخطاء متتالية. أولها، تأميم القناة عام 1956 قبل انتهاء امتياز شركتها في 1968، حيث دفعت مصر ثمنا اقتصاديا وعسكريا وبشريا باهظا نتيجة العدوان الثلاثي، وساعد التأميم على دخول أمريكا الشرق الأوسط كقوة عظمى بدلا من بريطانيا. ثم أرسل جمال افضل القوات المصرية إلى اليمن عام 1962 لدعم جانب من الشعب اليمني ضد جانب آخر، حيث وقفت السعودية مؤيدة للجانب الآخر، في أول حرب أهلية بين العرب تتم من خلال طرف ثالث. وكانت السياسة الاقتصادية أسوء ما جاء به جمال، حيث أدى التحول الاشتراكي إلى تفويت الفرصة على مصر فى دخول انطلاقة اقتصادية. حيث كانت مصر عا 1960 في نفس مستوى كوريا الجنوبية اقتصاديا، فتأخرت بينما انطلقت كوريا دون توقف.
ولقد كان من أهم أفضال جمال بناء الجيش وتسليحه، حتى قيل في الستينيات أن مصر هي أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط. ولكن هذه القوة تضعضعت خلال ساعات أمام العدوان الإسرائيلي عام 1967، وذاقت مصر أسوء هزيمة لها منذ الهكسوس، وما تزال آثار العدوان ماثلة أمام أعيننا. وبالرغم من بسالة الجيش المصري في حرب العبور، وقضائه على اسطورة الدولة التي لا تقهر، فقد تنازلت مصر بقيادة السادات عن مكاسبها العسكرية، بتنازلها  عن سيادتها الكاملة على سيناء في اتفاقية كمب ديفيد.
المحصلة النهائية أن الانقلاب الأول الذي قام به جمال، وألهب به خيالنا لم يؤد للديمقراطية، بل إلى استمرار الدكتاتورية العسكرية لستين عاما. وبعد أن حكم جمال حكما عسكريا منفردا، تحول إلى بعض مظاهر الدولة المدنية، مثل الحزب الواحد، والانتخابات المزورة، اللذين استمرا خلال فترتي السادات ومبارك.
ولأول مرة في تاريخ مصر منذ عهد الملكية، تعود الحرية في 25 يناير، بفضل أهم عبور في تاريخ مصر، وهو عبور حاجز الخوف، وتمكن الشعب بشتى القوى السياسية من إجبار مبارك على التنحي، وكان لوقوف الجيش على الحياد أثره في نجاح الثورة وتقليل الضحايا. وكان هذا العبور أهم انجازات الثورة. يليه بعد ذلك إنجاز الدستور، فقد توافقت القوى السياسية على معايير لانتخاب جمعية تأسيسية، قام مجلسا الشعب (الذي انحل فيما بعد) والشورى مجتمعين بانتخاب أعضائها، وتم انجاز مواده بالتوافق، باستثناء المواد الإثنتى عشرة الأخيرة التي لم تشارك في صياغتها القوى الليبرالية والعلمانية، حيث تغيّب عدد منها دون استقالة رسمية، واستقال عدد قليل.
وتضمن الدستور في بابه الثاني الحقوق والحريات التي حرم منها الشعب المصري منذ العصور الفرعونية، كما تضمن نصوصا تقلل كثيرا من سلطات رئيس الجمهورية، وتسمح لمجلس النواب بمحاكمته، كما قيدت سلطة الرئيس في حل مجلس النواب بإجراء استفتاء، فإذا رفضه الشعب كان على الرئيس أن يستقيل.
ويبدوا أن أعضاء الجمعية التأسيسية كانوا مبالغين في التفاؤل، فلقد ظننا أنه بقراءة الدستور سوف يقف الشعب لحمايته، ولا يقبل نقضه أو إلغاءه، وإن كان من الممكن تعديله. كما اعتقدنا أيضا مخطئين أن الروح الديمقراطية ستعم الجميع. ولكن من وصلوا للحكم اتهموا بتمكين أنفسهم، وعدم القدرة للتصدي للمشاكل الملحة من ناحية، بينما استخدمت المعارضة اسلوب الاستنزاف، فقامت بما يزيد على 8000 مظاهرة و24 مليونية خلال عام واحد، مما أدى إلى انهيار اقتصادي واضح لم تستطع حكومة مرسي وقفه، خاصة وأن الفلول والدولة العميقة ساهموا في شح السلع الاستراتيجية ونجحوا في جلب غضب الكثيرين على الحكومة.
وعندما شعر كثيرون أن أخطاء الرئاسة في العام الأول لحكم مرسي كانت بالغة ومتكررة، ونظرا لارتباطه بجمعية الإخوان المسلمين التي كان إعلام جمال ومن تلاه قد نجح في تشويه سمعتها، قامت حركة تمرد، ومعها جبهة الإنقاذ تدعو للفاشية العسكرية كوسيلة للتخلص من مرسي. وبالرغم من أنه ليس هناك من دليل على أن الانقلابيون الفاشيون كانوا أغلبية، تحيز الجيش لخيارهم، وقام بالانقلاب العسكري الثاني في تاريخ مصر. وكان من أخطر وأسوء ما قام به هو تعطيل الدستور الذي هو الضمان الوحيد لكرامة وحرية الإنسان المصري.
ونتج عن ذلك تعيين رئيس غير شرعي، بلا سند دستوري، وحكومة غير شرعية، وسجن الرئيس الشرعي أو إخفائه.  ولو كان الانقلابيون قد وجهوا قواهم، مستفيدين من أخطاء مرسي وتزايد المعارضة لأسلوبه في الحكم، في دعم أغلبية في مجلس النواب تعارضه، لكان من الممكن أن يتم عزله دستوريا خلال شهرين أو ثلاثة فور انعقاد مجلس النواب. ولكن الكراهية الشديدة للآخر، وعدم قراءة الدستور وفهم محتواه، غلّبت المجازفة بمستقبل مصر وإيقاعها في فخ انقلاب عسكري ثانٍ.
والآن ونحن نشهد الانقلاب الثاني في تاريخ مصر، هل يرجع الانقلاب بنا إلى الدستور والديمقراطية، أم تعود الدكتاتورية العسكرية السابقة، ويودع الديمقراطيون السجون، بينما يحكم الانقلابيون بالقمع والتنكيل؟ وهل يستطيعون ذلك بعد عبور حاجز الخوف؟ هذه أسئلة تحتاج للمزيد من البحث في ذكرى الانقلاب الأول.

                                                                     د. معبد الجارحي

Thursday, July 18, 2013

سيناريوهات ما بعد الانقلاب د. معبد علي الجارحي

سيناريوهات ما بعد الانقلاب
د. معبد علي الجارحي
السيناريو الأول: قمع الإسلام السياسي وتأسيس ديمقراطية ليبرالية علمانية:
أن ينجح الانقلابيون في انتزاع الحكم من الجيش، ويؤسسون لديمقراطية ليبرالية علمانية. هذا يتطلب إعادة كتابة الدستور بما يغير الهوية المصرية من هوية إسلامية إلى هوية شبه غربية، ويتطلب هذا السيناريو تنازل الجيش عن الحكم وعودته إلى ثكناته من ناحية،  وتعاون القوى السياسية لشطب الإسلام من المشهد السياسي من ناحية أخرى. ويبدو هذا مستحيلا.
السيناريو الثاني: قمع قوى الإسلام السياسي، وإشعال حرب أهلية تعود بمصر إلى الدكتاتورية العسكرية كما كانت في عهد جمال عبد الناصر.
وهذا يحتاج إلى تعاون الجيش وقوى الأمن المؤيدة لنظام مبارك في إحداث قمع منظم، واعتقال قادة القوى الإسلامية بشتى ألوانهم، وشنقهم في محاكمات عسكرية. ويبدو هذا الحل شديد العنف بدرجة غير مقبولة في الشارع المصري، وقد يؤدي إلى إعادة توحد قوى ثورة يناير من إسلاميين وليبرال وعلمان، وتحولهم لمعركة حاسمة مع الفلول.
السيناريو الثالث: تزايد القمع وفقدان الجيش تعاطف الشعب، مثل ما حدث بعد هزيمة 67، وتوحد القوى السياسية لإجبار الجيش للعودة إلى الثكنات.
وقد يصحب هذا مواجهات عنيفة بين الجيش والشعب، وانقسام في صفوف الجيش ينتهي بانقلابه على قيادته الحالية.
السيناريو الرابع: أن ينتهز الجيش فرصة الخلاف الشديد بين القوى السياسية واستحالة التوفيق فيما بينها، ليعلن عودة الحكم للمجلس العسكري،
ويتم التحول لدكتاتورية عسكرية مباشرة، مع وعود جوفاء بعودة الديمقراطية بعد فترة انتقالية يتم تمديدها إلى مالا نهاية.
السيناريو الخامس: إستعادة نظام مبارك السابق:
أن تتمكن الحكومة المؤقتة من تعديل الدستور وتمريره في استفتاء، يسهل لفلول النظام السابق السيطرة على المجالس النيابية، ويهمش قوى الثورة إسلامية وعلمانية-ليبرالية. ويقف الجييش وراء النظام الجديد، بحيث يصعب إسقاطه. وهذا يتطلب أن يتوقف الحشد في الشارع، وأن تعود القوى المطالبة بعودة الشرعية إلى بيوتها وتقبل الهزيمة، وأن يستمر الانقلابيون في التعاون مع الجيش حتى تتم استعادة النظام السابق. ومن ثم لا يشعرون بعودة النظام السابق إلى بعد فوات الأوان. وأن تستخدم العملية الانتخابية لإلهاء الإنقلابيين والمدافعية عن الشرعية عن استعادة الثورة.
السيناريو السادس: التوافق والتصالح:
أن تسترد القوى الليبرالية العلمانية وعيها بثوابت ثورة يناير، وتدخل في حوار مباشر مع القوى الإسلامية للاتفاق على ترتيبات تضمن الخروج الآمن لقيادة الانقلاب والمتعاملين معه والعودة للشرعية. وأخشى أن يكون هذا السيناريو بعيد المنال، لأن الليبرالية-العلمانية قد ارتبطت مصالحها وسمعهتا بالانقلاب العسكري بدرجة يصعب التخلص  منها.
السيناريو السابع: استمرار الحشد والحشد المضاد، واستمرار تدهور الاقتصاد، وتحول مصر إلى دولة فاشلة، تنتهي بدكتاتورية عسكرية.
السيناريو الثامن: استمرار وتزايد حشود الدستوريين، وتراجع حشود الانقلابيين يقنع الجيش بالعودة عن الانقلاب والإفراج عن مرسي،
هذا سيمكن مصر من الاستمرار في تأسيس الدولة المدنية التي استهدفتها ثورة يناير، وينقل المعركة السياسية من الشارع إلى صندوق الانتخابات. ومن الجائز في هذه الحال أن يصدر مرسي عفوا عن قادة الانقلاب والمتعاونين معه، وأن يطلب من حكومة حازم ببلاوي الاستمرار حتى إجراء الانتخابات النيابية، وتعيين حكومة تمثل الإغلبية. وإذا احتدم الخلاف بين مرسي ومجلس النواب، فقد يلجأ للاستفتاء على حل المجلس ويخسر الاستفتاء فيضطر للاستقالة وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، كما ينص عليه دستور 2012.
أفضل السيناريو الثامن، لأنه الأكثر قربا لتحقيق أهداف ثورة يناير، وإبعاد الجيش عن الحكم.



Wednesday, July 10, 2013

ديباجة وثيقة دستور ثورة يناير

ديباجة وثيقة دستور ثورة يناير

نحن جماهير شعب مصر،
بسم الله الرحمن الرحيم وبعونه،
هذا هو دستورنا.. وثيقة ثورة الخامس والعشرين من يناير، التى فجرها شبابنا،
والتف حولها شعبنا، وانحازت إليها قواتنا المسلحة.
بعد أن رفضنا فى ميدان التحرير وفى طول البلاد وعرضها كل صور الظلم
والقهر والطغيان والاستبداد والإقصاء والنهب والفساد والاحتكار.
وجاهرنا بحقوقنا الكاملة "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"،
مشفوعة بدماء شهدائنا وآلام مصابينا وأحلام أطفالنا وجهاد رجالنا ونسائنا.
واستعدنا أجواء حضارتنا العظيمة وعبق تاريخنا ال ا زهر؛ فأقمنا أعرق دولة على
ضفاف النيل الخالد، عرفت معانى المواطنة والمساواة وعدم التمييز، وقدمت للعالم أول أبجديات الكتابة، وأطلقت عقيدة التوحيد ومعرفة الخالق، واحتضنت أنبياء الله ورسالاته السماوية، وزينت صفحات التاريخ الإنساني بمواكب الإبداع.
واستمرارا لثورتنا الطاهرة التى وحدت المصريين على كلمة سواء، لبناء دولة
ديمقراطية حديثة ؛ نعلن تمسكنا بالمبادئ التالية:
أولا: الشعب مصدر السلطات؛ يؤسسها، وتستمد منه شرعيتها، وتخضع لإرادته..
ومسئولياتها وصلاحياتها أمانة تحملها، لا امتيازات تتحصن خلفها.
ثانيا: نظام حكم ديمقراطى؛ يرسخ التداول السلمى للسلطة، ويعمق التعددية السياسية
والحزبية، ويضمن ن ا زهة الانتخابات، واسهام الشعب فى صنع القرارات الوطنية.
ثالثا: كرامة الفرد من كرامة الوطن.. ولا كرامة لوطن لا تكرم فيه المراة؛ فالنساء
شقائق الرجال، وشريكات فى المكتسبات والمسئوليات الوطنية.
رابعا: الحرية حق، فكرا وابداعا ورأيا، وسكنا وأملاكا وحلا ا وترحالا، وضع الخالق أصولها فى حركة الكون وفطرة البشر.
خامسا: المساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع: مواطنين ومواطنات؛ فلا تمييز، ولا
وساطة، ولا محاباة، فى الحقوق والواجبات.
سادسا: سيادة القانون أساس حرية الفرد، ومشروعية السلطة، وخضوع الدولة للقانون؛ فلا يعلو صوت على قوة الحق، والقضاء مستقل شامخ، صاحب رسالة سامية فى حماية الدستور واقامة موازين العدالة وصون الحقوق والحريات.
سابعا: الوحدة الوطنية فريضة، وركيزة بناء الدولة المصرية الحديثة وانطلاقتها
نحو التقدم والتنمية؛ ترسخها قيم التسامح والاعتدال والوسطية وكفالة الحقوق
والحريات لجميع المواطنين دون تفرقة بين أبناء الجماعة الوطنية.
ثامنا: الدفاع عن الوطن شرف وواجب؛ وقواتنا المسلحة مؤسسة وطنية محترفة
محايدة لا تتدخل فى الشأن السياسى، وهى درع البلاد الواقى.
تاسعا: الأمن نعمة كبرى؛ تسهر عليه شرطة تعمل فى خدمة الشعب وحمايته،
وفرض موازين العدالة، فلا عدل بلا حماية، ولا حماية بغير مؤسسات أمنية
تحترم كرامة الإنسان وسيادة القانون.
عاشرا: الوحدة أمل الأمة العربية؛ نداء تاريخ ودعوة مستقبل وضرورة مصير،
يعضدها التكامل والتآخى مع دول حوض النيل والعالم الإسلامى الامتداد
الطبيعى لعبقرية موقع مصر ومكانها على خريطة الكون.
حادى عشر: ريادة مصر الفكرية والثقافية، تجسيد لقواها الناعمة ونموذج عطاء
بحرية مبدعيها ومفكريها، وجامعاتها، ومجامعها العلمية واللغوية ومراكزها البحثية، وصحافتها وفنونها وآدابها واعلامها، وكنيستها الوطنية، وأزهرها الشريف الذى كان على امتداد تاريخه قوّاما على هوية الوطن، راعيا للغة العربية الخالدة، والشريعة الإسلامية الغراء، ومنارة للفكر الوسطى المستنير.
نحن جماهير شعب مصر،
إيمانا بالله ورسالاته،
وعرفانا بحق الوطن والأمة علينا،
واستشعارا لمسئوليتنا الوطنية والإنسانية،
نقتدى ونلتزم بالثوابت الواردة بهذا الدستور، الذى نقبله ونمنحه لأنفسنا،
مؤكدين عزمنا الأكيد على العمل به والدفاع عنه، وعلى حمايته واحترامه من قبل

جميع سلطات الدولة والكافة.

Sunday, July 7, 2013

مصر والنفق المظلم

مصر والنفق المظلم

كانت مصر في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك يحكمها دستور معيب، بانتخابات نيابية ورئاسية شاع تزويرها، وفي طريقها للتحول إلى جمهورية ملكية، يحكم فيها رئيس الجمهورية مدى الحياة، ويورثها لمن يرغب بعد مماته. من هنا لم تكن هناك شرعية دستورية بالمعنى المعروف.
وجاءت ثورة يناير بالشرعية الشعبية، حيث اتفقت جميع أطياف الشعب على التخلص من النظام البائد، وبناء حياة ديمقراطية سليمة. وتأكدت الشرعية الشعبية باتحاد طوائف الشعب على التغيير، باستثناء أعداد محدودة مأجورة معارضة. وخلال ذلك، بدأت جهود مصر لتكوين شرعية دستورية حقيقية بصياغة دستور 2012 الذي أقره الشعب. وتلاه اختيار أول رئيس منتخب في انتخابات مفتوحة حرة ونزيهة تحت إشراف قضائي.
ثم كانت مصر في موعد لدخول نفق مظلم منذ بداية حكم الرئيس محمد مرسي. فقد ظهر سريعا انقسام قوى الثورة بين الليبرالية-العلمانية، والتي تشمل الفاشية الناصرية والتطرف الفوضوي والعلمانية الأتاتوركية، بالإضافة إلى قوى معتدلة أخرى، وبين الإسلامية التي ضمت ستة عشر حزبا تتراوح بين الإسلام الوسطي والأصولي والجهادي.  واتضح أن الليبرالية العلمانية في معظمها ترفض بكل قوتها حكم الإسلاميين، وهي على استعداد للتضحية بالشرعية الدستورية في سبيل التخلص منهم. وكان حكم مرسي في أول عام له حافلا بحوالي ثمانية آلاف مظاهرة وأربع وعشرين مليونية، دمرت الاقتصاد المصري، وأحالت الجنيه إلى غرفة الإنعاش. وارتكب مرسي عدة أخطاء لمعالجة التحديات السياسية، أهمها إصدار إعلانات دستورية. كما أنه لم يفلح في هيكلة مؤسسة الرئاسة على أسس منطقية موازية لما هو عليه الحال في الدول المتقدمة. كما لم يفلح في دحض اتهامات معارضيه، بارتباطه في قراراته برغبات جمعية الإخوان المسلمين. ولكنه كان بصفة عامة متسامحا مع منتقديه، متغاضيا عن سيل الاتهامات التي كيلت له صباح مساء. وعمل الإعلام غير المهني المتحيز للمعارضة تماما على تشويه صورته.
واستمر حشد الليبرالية-العلمانية مع تكوين حركة تمرد التي تحالفت مع جبهة الإنقاذ والتي يقودها الخمسة المبشِرين أنفسهم بالرئاسة. ووجد فلول النظام السابق فرصة سانحة للانقضاض على ثورة يناير، فانضموا إلى الحشد وقاموا بتمويله ودعمه بالبلطجية وغلمان الشارع المسلحين على أوسع نطاق. في حين غفل الإسلاميون وقللوا من شأن التحالف الليبرالي-العلماني-الفلولي المضاد للشرعية الدستورية. ولكن التحالف تمكن من الضغط على الجيش وإقناعه بالخروج على الشرعية وعزل مرسي وتعطيل الدستور، متجاهلا في ذلك قطاعا كبيرا من الشعب الذي لم يعتد على الاحتشاد وآثر القبوع في البيوت. ومن وراء الكواليس، استغل البرادعي أحد الخمسة المبشرين صلاته بالغرب وبالعرب ليقنعهم بقبول الانقلاب القادم.
وأخيرا استولى الجيش على السلطة، وعين رئيسا مؤقتا، ورسم خارطة طريق مفروضة على الجميع. وبدأ التجمع الليبرالي العلماني في الاستعداد للانقضاض على غنائم الحكم، واستبعاد الإسلاميين، كما دخل بعض رموز التيار الإسلامي السجون رهن المحاكمات.
وفور الانقلاب، بدأ تجمع لمؤيدي الشرعية الدستورية يضم الإسلاميين وبعض ثوار يناير الذين لم ينخدعوا بخارطة المستقبل، وبدأت حشودهم تظهر في الميادين، مع دعواتهم لاستعادة الثورة.  وهنا تستوقفني احتمالات البقاء أو الخروج من النفق المظلم. والذي أخشى أن تكون مصر قد دخلته بلا وسيلة للخروج.
ما أدخل مصر في النفق المظلم من بادئ الأمر، ادعاء استخدام الشرعية الشعبية في وجه الشرعية الدستورية، وهو ادعاء باطل، لأن الشرعية الشعبية تصلح فقط عندما تكون الشرعية الدستورية فاسدة، وهي لم تكن كذلك، فالرئيس منتخب بصورة قانونية، والمؤسسات الدستورية في طريقها للاكتمال. وأخطاء الرئيس قد أزال الدستور الجزء الأهم منها وهو الإعلانات الدستورية، وما بقي لا يبرر تخطي الشرعية الدستورية، وإنما قد يبرر معارضته نيابيا في إطار الدستور.
كما أن الوضع الجديد بعد الانقلاب، أتي برئيس مؤقت، بالرغم من كونه رئيسا للمحكمة الدستورية، فقد قبل أن يأتي لقصر الرئاسة على ظهر دبابة، وأصدر أول إعلان دستوري بنفس الإسلوب الذي انتقده الليبراليون-العلمان. وبدأ يتخبط مع أول قرار له.
والأن، ما هي احتمالات الأحداث القادمة؟
الاحتمال الأول، أن تقتنع قيادة الجيش بخطئها وتعيد الرئيس مرسي، مقابل قبوله إجراء استفتاء رئاسي يتزامن مع الدعوة للانتخابات البرلمانية، وتكوين حكومة تقنية غير سياسية حتى يتم تنصيب حكومة الأغلبية فور الانتخابات النيابية. والأرجح ألا يحدث ذلك، لأن قيادة الجيش يمكن أن تهدد بالعزل والمحاكمة لمخالفة الدستور بالانقلاب عليه، بعد أن أقسمت على احترامه، إلا إذا وُجدت وسيلة لضمان بقاءٍ سالم أولتسهيل خروجٍ آمن لهم.
الاحتمال الثاني، أن تستمر شرعية الأمر الواقع في العمل وفقا للخطة التي وضعها الجيش. وبالتالي، يستمر الرئيس المؤقت في التخبط الناجم عن قلة الخبرة مع غياب السلطة التشريعية، وتستمر الحشود والحشود المضادة في الشارع المصري، مما يزيد الاقتصاد سوءا وينذر بالتحول لدولة فاشلة. ومع رفض الإسلاميين المشاركة في تعديل الدستور والانتخابات البرلمانية، ستأتي نتائجهما هزيلة لا تسمن ولا تغني، حتى يصل التدهور إلى درجة لا يطيقها الناس، فتقوم انتفاضة أخرى تضغط لتغيير النظام، ثم عودٌ على بدء. أي أن مصر تستمر في النفق المظلم بلا أمل في الخروج.
الاحتمال الثالث، أن تتوهم الحكومة أن السبيل الوحيد لوقف الحشود المضادة للانقلاب هو القمع والتنكيل. فتعلن الأحكام العرفية، وتمتلئ السجون وتنصب المشانق. وهذا سوف لا يضع في الاعتبار أن ثورة يناير قد أزالت حاجز الخوف، ولم يعد الناس يخشون الخروج للشارع، حتى ولو واجهوا البلطجية وغلمان الشوراع المأجورين بصدورهم العارية. وفي هذه الحال سوف يترنح النظام الجديد، لكن دون مؤشر على مايمكن أن يحل محله، وقد تدخل مصر في سنوات من الكبت والعنف دون أمل في خروج سريع.
السبب الأساس فيما حدث هو أن هناك قطاعا من المصريين يرى سيادة الشرعية المستمدة من الشارع والحشود، تحت إسم الشرعية الشعبية، على الشرعية الدستورية. والخطأ الواضح في ذلك، أن حشد الشارع يصلح لإبداء الرأي والتأكيد عليه والحرص على إسماعه للشعب. ولكنه لا يصلح وسيلة لاتخاذ قرار سياسي ترضاه غالبية الشعب، وهو الشيئ الذي لا يمكن الحصول عليه إلا من خلال الشرعية الدستورية التي تملك آليات محددة تم اختبارها في معمل التاريخ البشري للوصول إلى قرار سياسي يعكس رغبة الأغلبية.

نصيحتي للمصريين، إن اتبعوها تكون بديلا رابعا، وهي أن يتقابل قادة المتظاهرين في رابعة وفي التحرير، ويتفاوضون حول وسيلة للخروج من الأزمة واستعادة الشرعية الدستورية. ويبدو لي أن هذا اقتراح مثالي صعب المنال، وإن كان ممكنا.