Sunday, July 7, 2013

مصر والنفق المظلم

مصر والنفق المظلم

كانت مصر في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك يحكمها دستور معيب، بانتخابات نيابية ورئاسية شاع تزويرها، وفي طريقها للتحول إلى جمهورية ملكية، يحكم فيها رئيس الجمهورية مدى الحياة، ويورثها لمن يرغب بعد مماته. من هنا لم تكن هناك شرعية دستورية بالمعنى المعروف.
وجاءت ثورة يناير بالشرعية الشعبية، حيث اتفقت جميع أطياف الشعب على التخلص من النظام البائد، وبناء حياة ديمقراطية سليمة. وتأكدت الشرعية الشعبية باتحاد طوائف الشعب على التغيير، باستثناء أعداد محدودة مأجورة معارضة. وخلال ذلك، بدأت جهود مصر لتكوين شرعية دستورية حقيقية بصياغة دستور 2012 الذي أقره الشعب. وتلاه اختيار أول رئيس منتخب في انتخابات مفتوحة حرة ونزيهة تحت إشراف قضائي.
ثم كانت مصر في موعد لدخول نفق مظلم منذ بداية حكم الرئيس محمد مرسي. فقد ظهر سريعا انقسام قوى الثورة بين الليبرالية-العلمانية، والتي تشمل الفاشية الناصرية والتطرف الفوضوي والعلمانية الأتاتوركية، بالإضافة إلى قوى معتدلة أخرى، وبين الإسلامية التي ضمت ستة عشر حزبا تتراوح بين الإسلام الوسطي والأصولي والجهادي.  واتضح أن الليبرالية العلمانية في معظمها ترفض بكل قوتها حكم الإسلاميين، وهي على استعداد للتضحية بالشرعية الدستورية في سبيل التخلص منهم. وكان حكم مرسي في أول عام له حافلا بحوالي ثمانية آلاف مظاهرة وأربع وعشرين مليونية، دمرت الاقتصاد المصري، وأحالت الجنيه إلى غرفة الإنعاش. وارتكب مرسي عدة أخطاء لمعالجة التحديات السياسية، أهمها إصدار إعلانات دستورية. كما أنه لم يفلح في هيكلة مؤسسة الرئاسة على أسس منطقية موازية لما هو عليه الحال في الدول المتقدمة. كما لم يفلح في دحض اتهامات معارضيه، بارتباطه في قراراته برغبات جمعية الإخوان المسلمين. ولكنه كان بصفة عامة متسامحا مع منتقديه، متغاضيا عن سيل الاتهامات التي كيلت له صباح مساء. وعمل الإعلام غير المهني المتحيز للمعارضة تماما على تشويه صورته.
واستمر حشد الليبرالية-العلمانية مع تكوين حركة تمرد التي تحالفت مع جبهة الإنقاذ والتي يقودها الخمسة المبشِرين أنفسهم بالرئاسة. ووجد فلول النظام السابق فرصة سانحة للانقضاض على ثورة يناير، فانضموا إلى الحشد وقاموا بتمويله ودعمه بالبلطجية وغلمان الشارع المسلحين على أوسع نطاق. في حين غفل الإسلاميون وقللوا من شأن التحالف الليبرالي-العلماني-الفلولي المضاد للشرعية الدستورية. ولكن التحالف تمكن من الضغط على الجيش وإقناعه بالخروج على الشرعية وعزل مرسي وتعطيل الدستور، متجاهلا في ذلك قطاعا كبيرا من الشعب الذي لم يعتد على الاحتشاد وآثر القبوع في البيوت. ومن وراء الكواليس، استغل البرادعي أحد الخمسة المبشرين صلاته بالغرب وبالعرب ليقنعهم بقبول الانقلاب القادم.
وأخيرا استولى الجيش على السلطة، وعين رئيسا مؤقتا، ورسم خارطة طريق مفروضة على الجميع. وبدأ التجمع الليبرالي العلماني في الاستعداد للانقضاض على غنائم الحكم، واستبعاد الإسلاميين، كما دخل بعض رموز التيار الإسلامي السجون رهن المحاكمات.
وفور الانقلاب، بدأ تجمع لمؤيدي الشرعية الدستورية يضم الإسلاميين وبعض ثوار يناير الذين لم ينخدعوا بخارطة المستقبل، وبدأت حشودهم تظهر في الميادين، مع دعواتهم لاستعادة الثورة.  وهنا تستوقفني احتمالات البقاء أو الخروج من النفق المظلم. والذي أخشى أن تكون مصر قد دخلته بلا وسيلة للخروج.
ما أدخل مصر في النفق المظلم من بادئ الأمر، ادعاء استخدام الشرعية الشعبية في وجه الشرعية الدستورية، وهو ادعاء باطل، لأن الشرعية الشعبية تصلح فقط عندما تكون الشرعية الدستورية فاسدة، وهي لم تكن كذلك، فالرئيس منتخب بصورة قانونية، والمؤسسات الدستورية في طريقها للاكتمال. وأخطاء الرئيس قد أزال الدستور الجزء الأهم منها وهو الإعلانات الدستورية، وما بقي لا يبرر تخطي الشرعية الدستورية، وإنما قد يبرر معارضته نيابيا في إطار الدستور.
كما أن الوضع الجديد بعد الانقلاب، أتي برئيس مؤقت، بالرغم من كونه رئيسا للمحكمة الدستورية، فقد قبل أن يأتي لقصر الرئاسة على ظهر دبابة، وأصدر أول إعلان دستوري بنفس الإسلوب الذي انتقده الليبراليون-العلمان. وبدأ يتخبط مع أول قرار له.
والأن، ما هي احتمالات الأحداث القادمة؟
الاحتمال الأول، أن تقتنع قيادة الجيش بخطئها وتعيد الرئيس مرسي، مقابل قبوله إجراء استفتاء رئاسي يتزامن مع الدعوة للانتخابات البرلمانية، وتكوين حكومة تقنية غير سياسية حتى يتم تنصيب حكومة الأغلبية فور الانتخابات النيابية. والأرجح ألا يحدث ذلك، لأن قيادة الجيش يمكن أن تهدد بالعزل والمحاكمة لمخالفة الدستور بالانقلاب عليه، بعد أن أقسمت على احترامه، إلا إذا وُجدت وسيلة لضمان بقاءٍ سالم أولتسهيل خروجٍ آمن لهم.
الاحتمال الثاني، أن تستمر شرعية الأمر الواقع في العمل وفقا للخطة التي وضعها الجيش. وبالتالي، يستمر الرئيس المؤقت في التخبط الناجم عن قلة الخبرة مع غياب السلطة التشريعية، وتستمر الحشود والحشود المضادة في الشارع المصري، مما يزيد الاقتصاد سوءا وينذر بالتحول لدولة فاشلة. ومع رفض الإسلاميين المشاركة في تعديل الدستور والانتخابات البرلمانية، ستأتي نتائجهما هزيلة لا تسمن ولا تغني، حتى يصل التدهور إلى درجة لا يطيقها الناس، فتقوم انتفاضة أخرى تضغط لتغيير النظام، ثم عودٌ على بدء. أي أن مصر تستمر في النفق المظلم بلا أمل في الخروج.
الاحتمال الثالث، أن تتوهم الحكومة أن السبيل الوحيد لوقف الحشود المضادة للانقلاب هو القمع والتنكيل. فتعلن الأحكام العرفية، وتمتلئ السجون وتنصب المشانق. وهذا سوف لا يضع في الاعتبار أن ثورة يناير قد أزالت حاجز الخوف، ولم يعد الناس يخشون الخروج للشارع، حتى ولو واجهوا البلطجية وغلمان الشوراع المأجورين بصدورهم العارية. وفي هذه الحال سوف يترنح النظام الجديد، لكن دون مؤشر على مايمكن أن يحل محله، وقد تدخل مصر في سنوات من الكبت والعنف دون أمل في خروج سريع.
السبب الأساس فيما حدث هو أن هناك قطاعا من المصريين يرى سيادة الشرعية المستمدة من الشارع والحشود، تحت إسم الشرعية الشعبية، على الشرعية الدستورية. والخطأ الواضح في ذلك، أن حشد الشارع يصلح لإبداء الرأي والتأكيد عليه والحرص على إسماعه للشعب. ولكنه لا يصلح وسيلة لاتخاذ قرار سياسي ترضاه غالبية الشعب، وهو الشيئ الذي لا يمكن الحصول عليه إلا من خلال الشرعية الدستورية التي تملك آليات محددة تم اختبارها في معمل التاريخ البشري للوصول إلى قرار سياسي يعكس رغبة الأغلبية.

نصيحتي للمصريين، إن اتبعوها تكون بديلا رابعا، وهي أن يتقابل قادة المتظاهرين في رابعة وفي التحرير، ويتفاوضون حول وسيلة للخروج من الأزمة واستعادة الشرعية الدستورية. ويبدو لي أن هذا اقتراح مثالي صعب المنال، وإن كان ممكنا. 

No comments: