الحلقة الأولى
يقدم البديل في إطار من العدالة
التمويل الإسلامي يطرح رؤية آمنة للخروج من الإعصار(1)
تاريخ النشر: 26/10/2008
حارت العقول والأفهام في تحديد الأسباب ومن ثم الحلول
الحقيقية لانهيارات الأسواق التي نجمت عن فقاعة العقارات، أو ما تعرف بأزمة الرهون
العقارية. ورغم كثرة الحديث عن المحفزات وخطط الإنقاذ، وضخ الأموال إلا أن الأسواق
باتت لا تستجيب بشكل مؤثر لتلك الخطط والمحفزات. وكأن فيروس الانهيار يكتسب مناعة
ذاتية تجاه مختلف محاولات الإنقاذ لجسد الاقتصاد العالمي المريض.
في هذا الخضم يطرح الدكتور معبد علي الجارحي الخبير
المالي المعروف ومدير التدريب بمصرف الإمارات الإسلامي ورئيس الجمعية الدولية
للاقتصاد الإسلامي رؤية ثاقبة وموضوعية حول الأزمة وأسبابها ومظاهرها، والمخرج
الآمن منها، عبر دراسة ننشرها على حلقتين، إيمانا منا بأهمية الطرح وأصالة الأفكار
التي تستند اليها الدراسة التالي نصها.
تكمن أسباب العاصفة التي هبت مؤخرا على الاقتصاد
العالمي، في طبيعة النظام الاقتصادي المطبق في الدول الغربية. ودعنا نبدأ بتلخيص
أهم ملامح هذا النظام. أولاً: هو نظام يعتمد على إعطاء الحرية الاقتصادية الأهمية
القصوى في كافة القطاعات، وثانياً يعتمد على أسس إقراضية في توزيع الموارد
المالية. وثالثاً، يركز التعامل في أسواقه المالية على التجارة في المخاطر، أو ما
يسميه الفقهاء عقود الغرر، التي تضم المستقبليات والمشتقات وغيرها. ورابعا، لكي
يمكن استخدام تلك العقود، يسمح في الأسواق ببيع ما لا يملك، وربح ما لا يضمن، وبيع
الديون.
هذه الملامح الأربعة هي السبب الرئيسي وراء العواصف التي
تصيب الاقتصادات الغربية بصورة متكررة ومتزايدة بين فترة وأخرى. ودعونا نشرح لماذا
تكمن الملامح الأربعة للاقتصاد الغربي وراء المشاكل المتكررة التي تتزايد في حدتها.
أولاً، من حيث إعطاء الحرية الاقتصادية الأولوية القصوى،
فإن ذلك يؤدي من ناحية إلى ضعف إجراءات التضبيط والرقابة في الاقتصاد، ويفتح بابا
أوسع لانحرافات الأسواق، خاصة في مجالات الاحتكار والمضاربات القمارية. ومن ناحية
أخرى، غالبا ما يتضاءل الاهتمام بالعدالة الاجتماعية، وتضعف أغراضها، بحيث تقتصر
على مجرد إبقاء الفقير على قيد الحياة، دون إعادة توزيع حقيقي للثروة بين الأغنياء
والفقراء. وهذا يعرض المجتمع لصراعات اقتصادية وسياسية بعضها ظاهر، وأكثرها يتفاقم
ببطء وراء الأستار.
ثانيا، أن الاعتماد على الأسس الإقراضية في تخصيص
الموارد المالية، يؤدي إلى إعطاء الملاءة المالية الدور الأول في تخصيص الموارد،
بدلا من الجدوى الاستثمارية. وبالتالي، فإن المصارف والمؤسسات المالية سوف تقوم
بنشاطها التمويل عن طريق الإقراض، أي تقديم القروض بفائدة، وتتجنب التمويلات
السلعية والمشاركات. وهذا يحوّل عملية التمويل إلى مجرد بيع نقد ناجز بنقد آجل،
وينصب اهتمام المقرض في هذه الحالة على ملاءة المقترض، وليس على قدرته على السداد،
التي ترتبط بعاملين: الأول جدوى استخدام الأموال وربحيته المتوقعة من جانب،
والملاءة من ناحية أخرى. فيتم التركيز على العنصر الأخير بدرجة أكبر، وإهمال
العنصر الأول، وهو جدوى استخدام الأموال المقترضة. ويؤدي ذلك الأسلوب إلى تحول
المصارف إلى مؤسسات وساطة مالية، تقترض (أي تشتري النقد) من الجمهور بفائدة ربوية،
ومن ثم تقرضه (أي تبيع النقد) بفائدة أعلى للمتمولين.
ثالثا، من المفهوم بداءة أن المتاجرة تكون في السلع
والخدمات، أو في حقوق ملكية لموجودات فعلية وموجودة، كالأسهم مثلا، أو في موجودات
موصوفة في الذمة، كصكوك في طائرات تحت التصنيع، وتمثل كلا الأداتين حقوقا على
المشاع في موجودات الشركات. ولكن الاقتصاد الغربي نحا منحا خطيرا عند ابتداع
التجارة في غير المملوك للبائع، أو الموجود أصلا. هذه العقود التي تشمل
المستقبليات والمشتقات مصممة للتجارة في المخاطر، أو بمعنى آخر المقامرة.
فالمتعاملون في تلك العقود يقامرون على الأسعار في المستقبل،
ومن الأساليب المستخدمة في هذا المجال البيع القصير،
والشراء الطويل، وتأجيل البدلين في البيع. فالبيع القصير (short selling) (أو ما يسمى
عرفاً بالبيع على المكشوف) يعني أن يقامر البائع على انخفاض سعر الأسهم، ومن ثم
يبيعها الآن (دون أن يملكها) على أمل أن يكون سعرها قد انخفض عندما يحين وقت
تسليمها، وبالتالي يشتريها بسعر أرخص مما باع به، ويكسب الفرق، الذي يخسره في
الوقت نفسه من يكون قد اشتراها بسعر أعلى وتسلمها وهي أقل سعرا. أما الشراء الطويل (long purchase) فهو ينصب على قيام المشتري بالمقامرة على ارتفاع سعر
الأسهم، بأن يشتريها بقرض ربوي، على أمل أن يبيعها بسعر أعلى في المستقبل، ويكون
مكسبه الزيادة في السعر، التي يكون قد خسرها من باعها قبل ارتفاع الأسعار. وفي
الغالب يرتبط الشراء الطويل بالقروض التي تقدمها المصارف مباشرة أو من خلال
السماسرة للتمويل الربوي لجزء أو هامش من ثمن البيع، ولذلك يسمى بالشراء أو
التعامل على الهامش. ويتم الكثير من التعامل على أساس مستقبلي، بأن يدخل أطراف في
عقود بيع يؤجل فيها دفع الثمن وقبض السلع إلى أجل مستقبل. وتؤدي تلك العقود
القمارية إلى خسارة من باع ثم ارتفعت الأسعار ومن اشترى ثم انخفضت الأسعار، مقابل
ربح من باع ثم انخفضت الأسعار ومن اشترى ثم ارتفعت الأسعار.
وهكذا تنبني الأسواق على ترتيبات قمارية تحيلها إلى
قاعات قمار، تستقطب الأموال من أنشطة إنتاج السلع والخدمات، إلى نشاط مشبوه، يعتمد
على محاولة الحصول على مكسب سريع بالمقامرة على اتجاه الأسعار على حساب طرف آخر.
ومن الغريب أن الأسواق العالمية المنظمة تقودها قلة من المتخصصين الذين يدرسون
الأسواق بعناية، ويحسنون عادة القيام بمقامرات محسوبة، وبذلك يكونون في الغالب
الكاسبين في المقامرة. وتقابلهم كثرة من الجمهور من غير المتخصصين، الذين ينجرفون
كالقطيع وراء الرغبة في تحقيق الكسب السريع، وهم في الغالب الخاسرون في المقامرة.
رابعا، أنه من الواضح أن تلك المعاملات القمارية في
أسواق السلع والمال تعتمد على رخصتين تأصل كل منهما في تلك الأسواق، الأولى بيع ما
لا يملك، أي أن البائع يبيع سلعة لا يملكها ولا ينتجها، والثانية، بيع الدين، أي
أن البائع يكون له دين على طرف آخر، فيقوم ببيعه في السوق. وهذا يجعل المعاملات
أقرب إلى الوهم وأبعد عن الحقيقة من المعاملات الفعلية التي تجيزها الشريعة والتي
يتم فيها تقابض البدلين: كما في البيع المطلق الذي يتم فيه تسليم واستلام كل من
البدلين: السلع مقابل الثمن في الحال. أو قبض أحدهما وتأجيل الآخر كما في البيع
بثمن آجل حيث يتم تسليم السلع ويؤجل قبض الثمن، أو حيث يعجل دفع الثمن ويؤجل تسليم
السلع، كما في بيع السلم
.
أما بيع الديون فمصيبة أخرى، فباعتراف المتخصصين، تكون
أسواق الديون أو السندات أكبر مصدر للهزات الاقتصادية وما يسمى العدوى. فسوق
الديون بطبيعتها يسهل الدخول فيها بشراء السندات الذي يمكن أن يتم في لحظات، كما
يسهل الخروج منها عن طريق بيع السندات. وعندما تتجه التوقعات إلى سوء الأحوال في
بلد ما، تخرج منه الأموال مهرولة، مما يجعل خروجها مشابها للإعصار الذي يعصف
باقتصاد تلك الدولة. فتنهار مؤشراتها الاقتصادية بسرعة مذهلة، وتنتقل العدوى إلى
الدول التي ترتبط اقتصاداتها بالدولة المصابة.
ومن العجيب أن حجم التجارة في الديون (أو السندات) أصبح
يفوق حجم الإنتاج البشري من السلع والخدمات بمراحل، حيث يبلغ حجم التعامل في
الديون في الأسواق المالية العالمية ما يزيد على ألف مليار دولار يوميا، بينما يصل
الإنتاج العالمي من السلع والخدمات إلى بضعة وثلاثين ألف مليار في العام الكامل. ومن
المقبول عامة أن يكون القطاع السلعي حيث يتم إنتاج وتبادل السلع والخدمات أكبر
بكثير من القطاع المالي، بحيث يكون مكان القطاع المالي بمثابة مكان الذيل من
الكلب، الذي يهز ذيله، دون أن يهتز باهتزاز الذيل. ولكن التعامل في الأسواق
المالية جعل الذيل يفوق الكلب في حجمه وحركته، أي أن الذيل يهز الكلب وليس العكس.
ولقد كانت سوق الديون هي الباب الواسع الذي دخلت منه
الأزمة الأخيرة. فقد قامت البنوك الأمريكية بتقديم قروض لملايين الأمريكان لغرض
شراء مساكن. وكانت تلك القروض مضمونة بالعقارات التي يسكنونها أو يملكونها والتي
تم رهنها. ثم بعد ذلك قامت البنوك بإغراء أصحاب المساكن بإعادة تمويل الرهون
العقارية، بعد أن أعادوا تقييم العقارات بسعر أعلى مما بيعت به. وبذلك حصل ملاك
العقارات على المزيد من القروض دون ما يزيد ما لديهم من عقارات. وبذلك أصبحوا أكثر
عرضة للوقوع في شراك الإعسار. وفي العادة تقوم مؤسسات متخصصة بالتأمين على تلك
الديون، من أكبرها: فريدي ماك وفاني ماي، على أساس أن أقساط التأمين سوف تزيد على
الديون التي يفشل أصحابها في السداد، وبالتالي تحقق تلك المؤسسات أرباحا كبيرة.
ونظرا لسهولة بيع الديون، فقد قامت البنوك الأمريكية بتجميعها في حزم وإصدار سندات
مقابلها، ثم بيعها في الأسواق المالية. وقام بشرائها العديد من البنوك في أنحاء
المعمورة، على أساس أنها ديون مضمونة بعقارات ومؤمن عليها من قبل مؤسسات عملاقة.
ومن طبيعة الديون الربوية عدم القدرة على الاستمرار،
بمعنى إذا أصيب المدين بالإعسار، وتأخر في سداد قسط من القرض، تفرض عليه فوائد
تأخير مضاعفة، وإذا أعيدت جدولة الدين، زادت عليه رسوم إعادة الجدولة، وبالتالي
يزيد حجم الدين، وبالرغم استمرار المقترض في السداد، فإن الدين لا يختفي ولا
ينتهي. بل قد يدفع المدين عدة أمثال أصل الدين دون أن يتمكن من سداده. وهكذا كان
من المحتم أن يؤدي إعسار لا يتمكن الكثيرون من سداد ما عليهم من مستحقات الديون
العقارية.
ولقد كان واضحا منذ البداية أن المقترضين من أصحاب
العقارات قد غرر بهم، ووضعوا في موضع لا بد وأن يؤدي بالكثير منهم إلى الإعسار.
وجاءت الطامة الكبرى عندما تبين أن الأغلبية العظمى لتلك الديون غير قابلة للسداد،
إما لفقر المقترضين، أو للمبالغة في قيمة العقارات المرهونة كضمان، أو كليهما.
وبذلك اشتهرت تلك الديون باسم الديون الرديئة (subprime debt).
ولما كانت البنوك التقليدية تستقطب الودائع على هيئة قروض
مضمونة السداد بأصلها وفوائدها، بينما تقرض تلك الأموال قروضا يعتمد ردها على
الضمانات الموجودة، فقد وجدت البنوك التي قدمت القروض العقارية نفسها في مأزق
شديد، حيث من المطلوب منها أن تقوم برد الودائع وفوائدها، ولكنها لا تستطيع تحصيل
ما عليها من ديون. كما أن الشركات التي ضمنت تلك الديون، وجدت أن قيمة الديون
الرديئة تفوق ما لديها من موارد للقيام بسداد ما عليها من ضمانات. وبذلك أصبح كل
من البنوك المقرضة وشركات ضمان القروض العقارية مهددة بالإفلاس. وهذا شيء خطير
يمكن أن يهدد النظم المصرفية في البلاد التي تورطت بنوكها في تقديم الديون
العقارية أو شرائها. فالخطورة تكمن في حال تقدم المودعين لسحب ودائعهم مع عدم تمكن
البنوك بردها. وإذا حدث ذلك لأحد المودعين، هرول بقية المودعين في البنك لسحب
ودائعهم خوفا عليها. وإذا انتشر خبر إفلاس بنك واحد هرول المودعون إلى بقية البنوك
لسحب ودائعهم فينهار النظام المصرفي كله في الدولة.
ونظرا لما قامت به الحكومة الأمريكية من تقديم دعم سخي
لمؤسسات ضمان الديون العملاقة، مثل فريدي ماك وفاني ماي، ولكبرى البنوك التي أنشأت
تلك الديون، ولأن الحكومات الغربية سوف تحذو حذو الحكومة الأمريكية، فإنه يحق لنا
أن نسأل هل هذا الدعم كان إجراء حكيما؟ وإذا لم يكن كذلك، فكيف نحل المشكلة التي
تكمن وراء الأزمة؟
المشكلة تكمن في عجز المقترضين، ومعظمهم من صغار
المدخرين الذين حصلوا على قروض تفوق قدرتهم على السداد، ولم يقم الكثيرون منهم
باستخدام الأموال المقترضة فعلا في تمويل نشاط اقتصادي يزيد دخولهم وثرواتهم، بما
يمكنهم من سداد ما اقترضوه. ولذلك، فمن المنطقي أن يكون الحل بمساعدة هؤلاء
المقترضين مباشرة على سداد ديونهم عن طريق إعفائهم من كافة الفوائد وإعادة الجدولة
دون زيادة في قيمة الدين، أو إعفائهم من جزء من أصل الدين وفوائده. أما شراء
الشركات وإنقاذها فهو يعنى مساعدة الدائنين وليس المدينين. بمعنى أن الشركات التي
قامت بتقديم القروض أو بضمانها سوف تحصل على أموال إضافية لمنعها من الإفلاس،
ولكنها سوف تستمر في مطالبة المقترضين بالسداد، وتتمادى في بيع عقاراتهم لتحصيل ما
يمكن تحصيله من الديون. بينما نجد أن المقترضين، وهم بالملايين، سوف يستمر تدهور
أوضاعهم المالية، وتنخفض مشترياتهم من السلع والخدمات، مما يؤدي بالاقتصاد إلى
ركود محقق.
وقد يدعي البعض أن مساعدة شركات الإقراض وضمان القروض
يساعد على استمرار القطاع المصرفي على الاستمرار في الإقراض، وأنه إذا توقف
الإقراض، فسيحل الكساد بالاقتصاد. ولكن المؤسسات المالية بصفة عامة، ومهما قامت به
الدولة من إجراءات، سوف تخفض نشاطها الإقراضي، بل إن الشك في قيام البنوك بإخفاء
الحقيقة حول ما لديها من ديون سيئة قد أدى إلى انعدام الثقة بين البنوك نفسها،
بحيث جعلها تحجم عن إقراض بعضها بعضاً. والأولى إذن أن نضع الأموال في أيدي
الجمهور المقترض، لكي يستمر الطلب على السلع والخدمات دون انخفاض، وبذلك نبقى على
المحرك الأساس للنشاط الاقتصادي.
ومن المفهوم أن تكون البنوك والمؤسسات المالية الكبيرة
أكثر قدرة على الحصول على الدعم الحكومي، نظرا لما تتمتع به من قوة سياسية
واقتصادية. حيث يكون أغلب الوزراء في أمريكا وكثير من ألعاملين في المؤسسات
السياسية من رجال الأعمال السابقين ذوي الصلة بمؤسسات الأعمال التي كانوا يعملون
فيها من قبل. كما أن الكثير من مؤسسات الأعمال يدعم الحملات الانتخابية للمرشحين
المفضلين. ويؤدي ذلك في إطار تبادل المنافع إلى التأثير في القرار السياسي. ولكن
كما شرحنا من قبل، لا فرق بين دعم البنوك الكبيرة أو الصغيرة، إذ لن يؤدي ذلك
الدعم إلى حماية الاقتصاد من الركود، وإنما الواجب أن يقدم الدعم مباشرة
للمقترضين، لحمايتهم من الإفلاس. وبالتالي، تتم تسوية ديونهم بما يحمي البنوك من
الإفلاس من ناحية، كما تستمر قوتهم الشرائية دون تدهور، فتستمر بذلك عجلة الاقتصاد
في الدوران من ناحية أخرى.
ولذلك نقول بكل ثقة إن الحلول المطروحة لعلاج الأزمة
حلول جزئية، تهدف ولا تتعدى التهدئة المؤقتة، ولكنها لا تحل الأزمة المتفاقمة، إلا
إذا اعترفت الدول الغربية بإفلاس النظام، وفتحت بابا واسعا للنقاش حول سبل إصلاحه.
وهذا شيء مقلق لنا نحن العرب، الذين لدينا أموال كثيرة في الاقتصاد الغربي، ولذلك
يحق لنا أن نسأل: أين أموالنا العربية، وهل يمكن أن تعود إلينا؟ فهناك خطر محقق
على الأموال العربية في الاقتصادات الغربية، سواء أكانت في البنوك الأجنبية، أم في
الأسواق المالية، أم حتى لدى الحكومات الغربية على هيئة أذون الخزانة والسندات
الحكومية. ويختلف الخطر باختلاف أسلوب توظيف الأموال. فالأموال لدى البنوك تواجه
مخاطر إفلاس البنك واحتمال قيام الحكومات بخفض سعر الفائدة لمواجهة الكساد
المنتظر. والأموال لدى الأسواق المالية تواجه التدهور الشديد في أسعار الأسهم وسوء
أداء الشركات مع حدوث الكساد. والأموال لدى الحكومات تتعرض لخطر خفض أسعار الفائدة
وتوقع رفض الحكومات تسييل أذون الخزانة والسندات الحكومية في ظل الشح السائد في
السيولة. يضاف إلى ذلك أن الأموال الموظفة حاليا بالدولار قد يبدو أنها قد تحسن
وضعها مع تحسن سعر صرف الدولار. إلا أن ذلك التحسن ظاهرة مؤقتة وخادعة، تتزامن مع
الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتأزمة، وتزول مع تزايد الانفراج السياسي الذي
يتوقع أن تبدو بشائره مع التغير المنتظر للإدارة الأمريكية. ومن المعروف أن
الأموال العربية قد عانت الكثير من الخسائر في الماضي وهي ما تزال معرضة للمزيد
منها. وهذا يعزز الاعتقاد أن تلك الأموال قد خرجت من أوطانها لمبررات سياسية
قاهرة، وليس لمبررات اقتصادية يمكن تفهمها.
والآن وقد عم التشاؤم في أسواقنا المالية، فهل يمكن أن
نستبدل به قدرا من التفاؤل؟ يعود التشاؤم الحالي في الدول العربية عامة والدول
الخليجية خاصة إلى الارتباط الوثيق بين الاقتصادات العربية والاقتصادات الغربية في
أوربا وأمريكا، والتشابه شبه المطلق بين الهياكل المؤسسية للنظام المصرفي والأسواق
المالية بين بلاد العرب وبلاد الغرب، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى انتقال العلل
الاقتصادية إلينا عن طريق العدوى مع غيرها من العلل الثقافية والاجتماعية.
ولذلك فمن الواجب السؤال: كيف نحصّن بلادنا من تلك
العلل؟ والواقع أن منظومة الاقتصادي الإسلامي بصفة عامة، ونظام التمويل الإسلامي
كأحد مكونات المنظومة كاف لإعطائنا مناعة طبيعية، وهذا يحتاج إلى تفصيل. ولكي
نختصر، نركز على نظام التمويل الإسلامي وكيف يحقق المناعة الطبيعية لبلداننا من
الأمراض الدخيلة علينا.
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في الحلقة المقبلة.
http://www.alkhaleej.ae/economics/page/e7757298-09f8-4397-9a12202de7d80e3d#sthash.IQlHxxED.dpuf
الحلقة الثانية
لتمويل الإسلامي يطرح رؤية آمنة للخروج من الإعصار (2 – 3)
النظام الاقتصادي الغربي معتل وآيل للسقوط والأزمة لا
تزال في بدايتها
تاريخ النشر: 29/10/2008
حارت العقول والأفهام في تحديد الأسباب ومن ثم الحلول
الحقيقية لانهيارات الأسواق التي نجمت عن فقاعة العقارات، أو ما تعرف بأزمة الرهون
العقارية. ورغم كثرة الحديث عن المحفزات وخطط الإنقاذ، وضخ الأموال إلا أن الأسواق
باتت لا تستجيب بشكل مؤثر لتلك الخطط والمحفزات. وكأن فيروس الانهيار يكتسب مناعة
ذاتية تجاه مختلف محاولات الإنقاذ لجسد الاقتصاد العالمي
المريض. في هذا الخضم يطرح الدكتور معبد علي الجارحي
الخبير المالي المعروف ومدير التدريب بمصرف الإمارات الإسلامي ورئيس الجمعية
الدولية للاقتصاد الإسلامي رؤية حول الأزمة وأسبابها ومظاهرها، والمخرج الآمن
منها، عبر دراسة ننشرها على 3 حلقات، إيمانا منا بأهمية الطرح وأصالة الأفكار التي
تستند اليها الدراسة التالي نصها.
النظام الاقتصادي الإسلامي يجعلنا في غير حاجة إلى
الاستمرار في استيراد نظام اقتصادي معتل، بل آيل للسقوط. فإذا نظرنا إلى الملامح
الأربعة التي سبق أن ذكرناها حول الاقتصادات الغربية، نجد نقيضها في النظام
الاقتصادي الإسلامي. أولا: النظام الاقتصادي الإسلامي يعطي مساحة كبيرة للحرية
الاقتصادية في كافة القطاعات، ولكنه يمنع الاحتكار ولا يتجاهل العدالة الاجتماعية،
ثانيا: يعتمد نظام التمويل الإسلامي على أسس سلعية واستثمارية في توزيع الموارد
المالية. ثالثا: أن التجارة في المخاطر، أو ما يسميه الفقهاء عقود الغرر، محرمة
صراحة، رابعا: أن بيع الديون لا يجوز إلا بقيمتها الاسمية. ولتفصيل ذلك بصورة
موازية لما قلناه حول الاقتصادات الغربية، نقول ما يلي:
أولا، من حيث الاهتمام المعتدل بالحرية الاقتصادية، فإنه
يتيح مساحة أكبر لأن تمارس الدولة إجراءات فعالة للتضبيط والرقابة في الاقتصاد،
منعا لانحرافات الأسواق، خاصة في مجالات الاحتكار والمضاربات القمارية، فللسلطات
الرقابية أن تبيع ما لدى المحتكر من السلع بسعر السوق رغما عنه، منعا لاستغلال
الجمهور. وبالنسبة للعدالة الاجتماعية، يعتمد الإسلام نظاما لإعادة توزيع الثروات
يتم تفعيله دوريا كل عام بما يقلل تدريجيا الفروق بين الغني والفقير، فنظام الزكاة
مثلا مبني على إغناء وليس مجرد إطعام الفقير. وبالإضافة إلى الزكاة، هناك نظم
للأوقاف والفيء والصدقات وغيرها.
ثانيا، أن الاعتماد على الأسس الاستثمارية والسلعية في
تخصيص الموارد المالية، يؤدي إلى إعطاء الكفاءة الاقتصادية الدور الأول في تخصيص
الموارد. فالمصارف الإسلامية لا تقوم بالإقراض، وإنما تقدم تمويلا سلعيا أو تمويل
بالمشاركة والمضاربة والوكالة. فمن حيث التمويل السلعي، يحصل المتعامل على سلع
تسلم حالا مقابل ثمن آجل، أو يحصل على ثمن حالاً مقابل تسليم آجل للسلع. وكذلك
يمكن أن يحصل المتعامل على الموجودات والمنافع والخدمات من خلال صيغ الإجارة
التشغيلية والتمويلية. وبالإضافة، يمكن أن يحصل المتعامل على تمويل لمشروعه عن
طريق المشاركة أو المضاربة أو الوكالة، ولكل منها أكثر من صيغة. وهكذا فإن عملية
التمويل تصبح أبعد ما يكون عن بيع نقد ناجز بنقد آجل، إذ ينصب اهتمام البنك
الإسلامي على قدرة المتمول على السداد، التي ترتبط بعاملين: الأول جدوى استخدام
المال وربحيته المتوقعة من جانب، والملاءة من ناحية أخرى. ويكون التركيز على جدوى
الاستخدام بدرجة أكبر. وبذلك فإن المصارف الإسلامية هي أبعد ما تكون عن مؤسسات
الوساطة المالية، لأنها تأخذ الودائع من الجمهور على أساس المضاربة والوكالة،
وتستخدمها في التمويل بأساليب لا تتضمن الإقراض الربوي.
ثالثا، المتاجرة تكون في السلع والخدمات وحقوق مباحة
أصلا، باستثناء السلع والخدمات المحرمة. أما العقود التي تشمل المستقبليات
والمشتقات وغيرها مما يستخدم في تجارة المخاطر، فهو ضرب من المقامرة المحرمة.
وبالنسبة إلى الأساليب المستخدمة في هذا المجال، فإن البيع القصير يقع في إطار بيع
ما لا يملك وهو محرم شرعا، ولأن الربا محرم وهو من أكبر الكبائر، فإن كل أنواع
الشراء بتمويل ربوي لا تجوز، وهذا يشمل الشراء بالهامش. كما لا يجوز أيضا تأجيل
كلا البدلين في البيع. ومن الواضح أن تطبيق تلك القواعد يحد من المضاربات السيئة
التي تؤدي إلى عدم يقف وراء الاختلال الاقتصادي.
ولهذا فإن الأسواق المالية في ظل نظام التمويل الإسلامي
ليست قاعات للمقامرة، وإنما هي أسواق هادئة يتم فيها تبادل الأدوات المالية بصورة
نظامية، بعيدا عن المضاربات المبالغ فيها، وهي بالتالي ليست مكانا يرتع فيه
الباحثون عن الربح السريع واللقمة السهلة السائغة.
رابعا، من الواضح أنه عندما يقوم بنك إسلامي بتقديم
تمويل بالمرابحة، أو من خلال البيع بثمن آجل، فإن الدين الناجم عن ذلك التمويل لا
يمكن بيعه. والسبب في ذلك أن الشريعة تمنع بيع الدين بثمن يختلف عن قيمته الاسمية،
وهذا ينفي الغرض الأساسي من وراء بيع الدين وهو بيعه قبل موعده مقابل التنازل عن
جزء منه (خصم أو حسم الديون)، أو بيعه بزيادة عن قيمته الاسمية نتيجة لأنه كان قد
انعقد بسعر فائدة أعلى من سعر الفائدة السائد في السوق. وبالتالي، لا يؤسس التمويل
الإسلامي سوقا متكاملة للتجارة في الديون على نسق سوق السندات حاليا. وبذلك يكون
قد انتفى تماما أكبر مصدر للاختلال الاقتصادي والعدوى. ويتضح دور التعامل الربوي
في إحداث الأزمة الحالية، فيما قلناه من قبل من أن تداول الديون في أسواق عالمية
منظمة هو مصدر مهم لعدم الاستقرار والعدوى. كما ألمحنا إلى أن نظام التمويل
الربوي، على خلاف نظام التمويل الإسلامي، نظام غير قابل للاستمرار، ونقول أيضا إنه
نظام مفكك وغير متماسك. وهذا من أسباب الوقوع المتكرر في حفر الأزمات الاقتصادية.
وتحتاج تلك الملامح الثلاثة لبعض الإيضاح.
فمن ناحية وجود أسواق منظمة لتبادل الديون، فإن ذلك يفسح
المجال لما يسمى الأموال الساخنة، وهي رؤوس الأموال التي تبحث عن الربح السريع،
فتدخل في سوق الديون في دولة معينة بسهولة وفي وقت قصير، سعيا وراء أسعار فائدة
أعلى. وحينئذ يتحسن سعر صرف عملة الدولة، وتنتعش فيها الأحوال الاقتصادية. وتشارك
الدول الأخرى التي ترتبط اقتصاداتها بتلك الدولة في الاستمتاع بذلك الانتعاش.
وعندما تتغير توقعات أصحابها حول اتجاه أسعار الفائدة، تهرول إلى دول أخرى،
وبالتالي تترك الدولة الأولى في حالة يرثى لها، فتنهار عملتها، وتتكدر أحوالها
الاقتصادية. وتنتقل العدوى بالمثل إلى الدول المرتبطة اقتصاديا بها. ولذلك فتداول
الدين، الذي هو قاعدة أصلية من قواعد التمويل الربوي مصدر كبير للاختلال الاقتصادي
والعدوى. ويلاحظ أن التمويل الإسلامي لا يسمح كما قلنا من قبل بتبادل الديون في
سوق منظمة، وبذلك ينتفي مصدر الاختلال والعدوى تماما.
أما عدم قدرة نظام التمويل الربوي على الاستمرار، فإن
قيمة الدين في هذا النظام لا تحدد سلفا. فمثلا يقترض فرد مليونا من الدراهم بسعر
فائدة 10 في المائة مقسطة على خمس سنوات. فإن قام بالسداد في الموعد، فبها ونعمت.
أما إذا تأخر في سداد أحد الأقساط، فتفرض عليه فوائد تأخيرية قد تصل إلى ضعف سعر
الفائدة الأصلي أو تزيد، كما أن فترة السداد تطول، وبالتالي تزيد قيمة المديونية.
وفي هذه الحالة يجد المقترض صعوبة في السداد. أما إذا تكرر تأخيره عن السداد، فإن
الفوائد التأخيرية تزيد وفترة سداد الدين تطول أكثر وأكثر. وهذا يدخل المقترض في
فخ المديونية، بحيث لا يستطيع الفكاك طوال حياته. وقد يضطر الكثير من المقترضين
إلى إعلان إفلاسهم للتخلص من ديونهم. وهذا يكلف البنوك الربوية الكثير، وقد يؤدي
إلى إفلاس بعض البنوك وتساقطها واحدا بعد آخر. وعندما تتفاقم مشاكل مديونيات
المتعاملين، تجد البنوك الربوية نفسها في مأزق لا تستطيع الخروج منه إلا بمعونة
الحكومة، أي على حساب دافعي الضرائب المغلوبين على أمرهم.
أما في ظل التمويل الإسلامي، فإن الديون التي تترتب على
التمويل السلعي بالمرابحة والبيع بثمن آجل لا يمكن زيادة قيمتها بحال من الأحوال،
وإذا حدث إعسار لأسباب خارجة عن إرادة المدين، فتتم إعادة جدولتها دون أية زيادة.
أما المدينون المماطلون الذين يتظاهرون بالإعسار وهم قادرون على السداد، فتفرض
عليهم غرامات توجه حصيلتها لأعمال الخير، إذ لا يجوز أن تستفيد منها البنوك الإسلامية.
ولكي نشرح أسباب تماسك نظام التمويل الإسلامي وتفكك
النظام الربوي، يمكن أن نشبه التمويل الإسلامي بالمباريات الجماعية التي يشارك
فيها كل فرد، ولا يهتم أحد بمجرد المشاهدة. فمن ناحية، يشارك المودعون من أصحاب
الأموال المصارف الإسلامية في المخاطر المرتبطة باختيار الاستثمار المناسب ومدى
تحقيقه للنجاح. وتشارك المصارف ومؤسسات التمويل بدورها في المخاطر التي يتعرض لها
مستخدمو الأموال.
وهكذا تتوزع المخاطر على عدد أكبر وأكثر تنوعا من
الأفراد ذوي الصلة بعملية الاستثمار، كما أن المشاركة في المخاطر يقابلها في نفس
الوقت مشاركة في اتخاذ القرار. وتؤدي المشاركة في المخاطرة على نطاق واسع، إلى
توزيع المسؤولية، بحيث لا تثقل كاهل أحد دون أحد، وبالتالي يكون نصيب الفرد منها
أخف، واعتماده على غيره أكبر، ويصبح الاقتصاد الوطني أكثر تماسكا، لأنه قد صار
أكثر قدرة على مواجهة الصدمات دون أن تصيبه في مقتل. وهذه هي الميزة الخامسة.
أما التمويل الربوي، فهو أشبه بمباريات النظارة، التي
تنشط فيها مجموعة قليلة من اللاعبين المحترفين داخل الملعب، ويكتفي الحشد الكبير
بمتابعة اللعب من الخارج. فالمصارف والمؤسسات المالية تأخذ من أصحاب الأموال قروضا
مضمونة الأصل والعائد، وتقدم لمستخدميها قروضا مؤمنة برهون وضمانات. وهكذا تترك
المخاطرة ليتحملها قلة من مستخدمي الأموال. وبالتالي يصبح الاقتصاد مفككا، لأن
الكثرة غير معنية بما يحدث للقلة. وعندما تواجه المصارف والمؤسسات المالية
التقليدية صعوبات من أي نوع، لا نجد أحدا من الجمهور يساندها، لأنهم لا يشاركون في
اتخاذ القرار، وبالتالي لا يشاركون في المخاطر. ولهذا فبمجرد أن تلوح في الأفق
مقدمات مشكلة ما، تبدأ تلك المؤسسات في التساقط، حتى ينفرط عقد النظام بأكمله، ما
لم تتدخل الحكومة لٌلإنقاذ قبل فوات الأوان.
وبالطبع، فإن هذا التحليل يشير بوضوح إلى وجوب أن تتبنى
الدول العربية نظام التمويل الإسلامي فورا ودون تأخير، ولكن قد يرد على ذلك بأن
الخطر الذي يتهددنا يعود إلى انهيار أسعار النفط، وليس إلى التمويل الربوي بالذات.
ولكن إذا كان من الممكن القول إن أسعار النفط قد انخفضت، فإنه يصعب أن نقول إنها
قد انهارت في بداية الأزمة. فنحن لا ننسى أن تجاوز أسعار النفط حاجز المائة دولار
للبرميل كان بسبب المضاربات التي ارتبطت بالقلاقل السياسية في منطقتنا العربية،
والتي تزايدت حدتها مع احتلال العراق. ولا بد أن نوضح أن الأسعار المعلنة والتي
ارتفعت قبل الأزمة، ليست الأسعار التي يتم التعامل عليها في السوق، فالدول النفطية
تبيع بأسعار تعاقدية تختلف باختلاف نوع النفط وشروط تسليمه. أما الأسعار المعلنة
فهي أسعار التعامل في العقود المستقبلية التي تسود في الأسواق مثل سوق نيويورك
للسلع، وهي أسعار يتعامل بها المضاربون، وإن شئت فقل المقامرون في السوق. ولذلك
نجد أن متوسط الأسعار التي باعت بها دول الخليج نفطها خلال عام سابق من الآن تقارب
80 دولارا. وهو رقم لا يبتعد كثيرا عن السعر السائد في أسواق العقود المستقبلة بعد
أيام قليلة من اندلاع الأزمة. أما انخفاض أسعار النفط بعد ذلك، فسببه الكساد الذي
تيقن الكثيرون أنه آت لا محالة، فهو نتيجة الأزمة وليس سببا لها.
ولذلك مصدر الخطر الحقيقي يكمن في الكساد المتوقع، الذي
يمكن أن يؤثر في صادرات الدول العربية دون تمييز، بما في ذلك انخفاض الطلب على النفط.
كما أن انخفاض حصيلة صادرات الدول النفطية سوف يقلل من تدفقات المعونات التي
تقدمها هذه الدول لشقيقاتها العربية، وبالتالي تزداد معاناة الجميع. فالعدوى التي
سوف تأتي، سوف تكون بفعل الكساد وما يصاحبه من تدهور.
وهناك أسئلة أخرى تثار حول نفس الموضوع، منها ما يتصل
بدوافع البنوك الأجنبية التي تفتح فروعا لها في الخليج، ومنها ما يتصل بأوضاع
الأسواق المالية في بلادنا وغير ذلك.
فما هي دوافع البنوك العالمية من وراء فتح فروع لها في
بلادنا؟ تكمن دوافع تلك البنوك، في سببين رئيسيين. السبب الأول أن خصائص المنطقة
الخليجية تختلف عن مثيلاتها في الدول الغربية، فالدول الخليجية مصدرة لرأس المال،
كما أنها تستورد العمالة غير العربية بكثافة. وبالتالي تعمل البنوك العالمية على
استقطاب رؤوس الأموال من الخليج إلى البلدان الأخرى والاستفادة من الفوائد
والعمولات التي تجنيها من جراء الوساطة بين أصحاب رؤوس الأموال في الخليج
والمقترضين في الدول الأخرى. كما تستفيد أيضا من خدمة العمالة غير العربية في
مجالات تحويل الأموال واستثمارها. والسبب الثاني هو اكتشاف التمويل الإسلامي ورغبة
المواطنين العرب والمسلمين الذين يعيشون في دول الخليج في الاستفادة من خدمات ذلك التمويل.
ولذلك يعمد الكثير من تلك البنوك إلى تصميم منتجات مالية إسلامية بمساعدة الخبراء
المسلمين، ثم تسويقها في الخليج.
ولكن إذا لم تكن لدينا مشكلة الرهون العقارية، فلماذا
تعاني أسواقنا المالية من مثل ما تعانيه الأسواق المالية في العالم الغربي؟ العامل
اللافت للنظر أن الأسواق المالية العربية والخليجية تتبع نفس القواعد والأساليب
المتبعة في الأسواق المالية العالمية، وذلك باستثناء سوق وحيد فريد، وهو سوق دبي
المالي، الذي يعيد صياغة معاييره وقواعد التداول فيه، بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية.
ولهذا الغرض، نجد له هيئة شرعية وهي بصدد إنشاء رقابة شرعية لمساندة أعماله. وكما
ذكرنا من قبل، فإن الأسواق العالمية تتبنّى عددا من قواعد التعامل تشجع على
المضاربات القمارية وتزيد من حدتها، مثل بيع ما لا يملك، وربح ما لا يضمن،
والتمويل الربوي، وغيرها. وكما أن الأسواق المالية العالمية قد أصبحت موائد
للقمار، وامتلأت بالمقامرين من كل حدب وصوب، فكذلك أسواق المال في الدول الخليجية
وغيرها من الدول العربية. وبالتالي فإن عوامل الخوف من انهيار المؤسسات المالية
التي انغمست في الديون العقارية الرديئة، قد هز قلوب المقامرين في الأسواق المالية
الخليجية والعربية، بقدر ما اهتزت قلوب رفاقهم في الأسواق المالية العالمية. وكأن
موائد القمار قد امتدت بين الغرب والشرق.
وفي هذا الصدد، لا ننسى أن أسواق المال في الغرب كما هي
في الخليج وبقية الدول العربية مفتوحة للمواطنين والأجانب، فمنهم من يقامر في
أسواقنا، ومنا من يقامر في أسواقهم. ولذلك، فإن أسواقنا وأسواقهم تتأثر بعوامل
مشتركة تجمع بينها وإن اختلفت البلاد.
والآن هل أصابنا من أزمة الديون العقارية شيء؟ هل اشترى
منها بعض بنوكنا؟ الحقيقة أنه بعد أن عقدت البنوك الغربية التمويلات العقارية
الربوية سيئة السمعة، ونجم عنها الديون الرديئة، التي لا تكفي ضماناتها العقارية
لتغطيتها، والتي لا يستطيع المدينون بحال من الأحوال أن يسددوها، عمدت تلك البنوك
إلى تجميل تلك الديون بتحويلها إلى أصول مالية تخفي طبيعتها الرديئة، وقاموا
بإصدار سندات دين مبنية عليها، بمعنى أنها تمثل حقوق ملكية في تلك الديون، وبيعت
تلك السندات في الأسواق، وتهافتت عليها البنوك في كل مكان. فاشترتها كثير من
البنوك الأوروبية والآسيوية، ووقعت في شراكها بعض البنوك العربية. وللأسف الشديد،
ليس لدينا معلومات كافية عن البنوك العربية التي اشترت تلك الديون. ومما يزد
الصورة ضبابا وتعكيرا، أن الشفافية في بلادنا غير كاملة، ومن الممكن إخفاء الحقائق
بسهولة ومن ثم نسيانها تماما. وقد يكون القصد من إخفائها الخوف من أن يُصدم
الجمهور في قدرة المصارف على التمييز بين الغث والسمين، والخوف من أن يفقد الجمهور
ثقته بالنظام المصرفي، وينفلت الأمر من بين أصابع السلطات النقدية، فينهار النظام
من قواعده.
كل ما نرجوه، أن تكون المصارف التي تورطت في شراء الديون
الرديئة لم تشتر بكميات كبيرة تبتلع الكثير من الأرباح على هيئة مخصصات ضخمة، بحيث
تمتص سيولة هائلة، وتترك البنوك المتورطة عاجزة عن سداد التزاماتها، ومن ثم تتهدد بالإفلاس.
أما البنوك الإسلامية، فقد حمتها الشريعة الغراء التي
تلتزم بها في أعمالها من الوقوع في شراك الديون الرديئة، لأن الشريعة تمنعها من
المتاجرة في الديون. ولقد حاولت بعض الأطراف المالية الغربية التغرير ببعض البنوك
الإسلامية، ولكن أدهشها أن الرفض كان سريعا وحاسما وغير قابل للنقاش، ولم يكن على
البنوك الإسلامية إلا أن تشرح باختصار للبنوك الغربية طبيعة التمويل الإسلامي.
وفي ضوء ذلك، إذا أرادت الدول العربية أن تحصن نفسها ضد
هذه الأزمة الحالية وأمثالها، فالأفضل أن تحول نظمها المالية والنقدية إلى النظام الإسلامي.
وهذا يمكن تحقيقه في أي دولة خلال ما لا يزيد على عامين، إذا توفرت الإرادة
السياسية والإعداد المناسب. كما على الدول العربية أن تعمد إلى إزالة جميع العوائق
أمام حركة السلع وعوامل الإنتاج، خاصة رؤوس الأموال والعمالة فيما بينها. وأن تهيئ
الظروف المواتية لاستقبال الأموال والعمالة من الدول العربية بما يحقق نموا
اقتصاديا حقيقيا، ويزيد من التبادل التجاري البيني، أي أن يزيد انفتاح اقتصادات
الدول العربية على بعضها بعضاً بدلاً من انفتاحها على الغرب.
وفي الوقت نفسه، على الدول العربية أن تضع برامج للتنمية
الاقتصادية والاجتماعية على مستوى الإقليم، يكون هدفها الأول بناء اقتصاد متنوع
ومتماسك، يستطيع أن يحقق متطلبات الرفاهة لمواطنيه. وهذا هدف يمكن تحقيقه خلال
عشرة أعوام على الأكثر.
وفي العادة لسنا متشائمين ولا يجوز لنا أن نتشاءم، ولكن
قد لا يكون التطبيق الفوري للاقتصاد الإسلامي مقبولا سياسيا، نتيجة لضغوط داخلية
أو خارجية، وقد لا يكون التكامل الاقتصادي العربي مقبولا أيضا للأسباب نفسها. وإذا
كان مالا يدرك كله لا يترك جله، فلا بد من حلول أقل نجاعة، تقدم حصانة جزئية غير كاملة.
والحلول الجزئية تتكون من ثلاثة عناصر، سنتحدث عنها تفصيلياً في الحلقة القادمة
بإذن الله.
الحلقة الثالثة
التمويل الإسلامي يطرح رؤية آمنة للخروج من الإعصار (3
من 3)
ثلاثة حلول تقدم حصانة جزئية للنظام المصرفي في الدول العربية والإسلامية
تاريخ النشر: 30/10/2008
حارت العقول والأفهام في تحديد الأسباب ومن ثم الحلول
الحقيقية لانهيارات الأسواق التي نجمت عن فقاعة العقارات، أو ما تعرف بأزمة الرهون
العقارية. ورغم كثرة الحديث عن المحفزات وخطط الإنقاذ، وضخ الأموال إلا أن الأسواق
باتت لا تستجيب بشكل مؤثر لتلك الخطط والمحفزات. وكأن فيروس الانهيار يكتسب مناعة
ذاتية تجاه مختلف محاولات الإنقاذ لجسد الاقتصاد العالمي
المريض. في هذا الخضم يطرح الدكتور معبد علي الجارحي
الخبير المالي المعروف ومدير التدريب بمصرف الإمارات الإسلامي ورئيس الجمعية
الدولية للاقتصاد الإسلامي رؤية حول الأزمة وأسبابها ومظاهرها، والمخرج الآمن
منها، عبر دراسة ننشرها على 3 حلقات، إيمانا منا بأهمية الطرح وأصالة الأفكار التي
تستند اليها الدراسة التالي نصها.
قد لا يكون التطبيق الفوري للاقتصاد الإسلامي مقبولا
سياسيا، نتيجة لضغوط داخلية أو خارجية، وقد لا يكون التكامل الاقتصادي العربي
مقبولا أيضا للأسباب نفسها. وإذا كان مالا يُدرك كله لا يترك جله، فلا بد من حلول
أقل نجاعة، تقدم حصانة جزئية غير كاملة. والحلول الجزئية تتكون من ثلاثة عناصر،
الأول أن نحسن النظام المصرفي المختلط السائد في بعض البلدان العربية والذي يسمح
بالتمويل الربوي والتمويل الإسلامي جنبا إلى جنب. وتحسين هذا النظام يتأتى من
إدخال المزيد من الإصلاحات على الجوانب القانونية والضريبية وأساليب الرقابة، لكي
تكون البنوك الإسلامية والتقليدية على قدم المساواة في المعاملة، ولكيلا تعامل
البنوك الإسلامية على أنها بنوك تقليدية. والعنصر الثاني أن ندخل بعض التحسينات
على قواعد التداول في الأسواق المالية العربية، يكون حدها الأدنى هو منع البيع
القصير بالهامش.
أما العنصر الثالث، فهو أن تزيد وتيرة التعاون الاقتصادي
العربي، بحيث نستهدف زيادة التجارة البينية خلال السنوات العشر القادمة إلى ما لا
يقل عن نصف حجم التجارة العربية الكلية.
ومن الواضح أن الأزمة الحالية ما تزال في بدايتها. ومن
المتوقع تفاقمها بمرور الوقت. لماذا؟ لأن السياسات المعروضة لمعالجة الأزمة لم
تتطرق بعد إلى الأسباب الحقيقية وراءها، وهي العيوب المؤسسية الموجودة في النظم
الاقتصادية الغربية. ومن الملاحظ من الأزمات الماضية أن الحكومات الغربية ليس
لديها الإرادة السياسية الكافية لإدخال تعديلات جوهرية على نظمها الاقتصادية.
فمثلا، ليس من المتوقع أن يتوقف العمل بنظام الإقراض الربوي ويستبدل بنظام قريب من
نظام التمويل الإسلامي. كما أن منع البيع القصير على المكشوف والشراء على الهامش
(التداول بالهامش) الذي قد حدث لا يعد اعترافا بضررهما الدائم، وإنما هو مجرد
إجراء مؤقت لإدارة الأزمة لا يعول على استمراره. ولا يعني ذلك أن النظام الاقتصادي
الغربي سوف لا يشهد تعديلات، ولكن ما سوف يحدث أن تكون التعديلات في أقل الحدود
الممكنة، وفي أمور أكثر سطحية مما تتطلبه معالجة الأزمة.
وفي ضوء ذلك، من المنتظر أن يتساقط المزيد من البنوك
والشركات، إما من خلال الإفلاس الصريح، أو من خلال الدمج والاستحواذ. كما نتوقع أن
تتزايد موجة الكساد وتستمر خلال بقية العام الحالي، ولا تبدأ حدتها في الانخفاض
إلا بعد منتصف العام المقبل، كما يتوقع أن تستمر حالة الشح في السيولة إلى منتصف
عام 2009 حينما تبدأ في الانحسار التدريجي، بشرط أن تبادر الإدارة الأمريكية
الجديدة بتطبيق بعض السياسات التوسعية الأكثر جرأة مما هو معروض حاليا. والنظر في
إمكان إصلاح النظام بدلا من إعطائه المسكنات المعتادة.
إلا أننا نتوقع أن تكون الأزمة الاقتصادية أقل حدة في
الدول الخليجية، وإن كنا نخشى أن تواجه بعض الدول العربية غير النفطية ظروفا قاسية
قبل الخروج من الأزمة، خاصة الدول التي تعتمد بدرجة كبيرة على استيراد الغذاء
والكساء، والمعونات الخارجية، وتعاني حاليا من اختلالات اقتصادية صعبة، تتضمن
تضخما في المديونية الخارجية والداخلية، وعجزا في الميزانية والمدفوعات الخارجية،
وتضخما في الأسعار، وتزايدا في الفجوة بين الأغنياء والفقراء. كما أن بعض تلك
الدول يعاني من فشل ذريع في مواجهة الأزمات الصغيرة، فما بالك بالأزمات الكبيرة!
ولكن، هل تتأثر صناعة الصيرفة الإسلامية بهذه الأزمة؟ من
الطبيعي أن يؤدي الفشل الذريع للنظم الاقتصادية الغربية، بدءا بالانهيار المفاجئ
للشيوعية، وما صاحبه من اندحار الاشتراكية، ثم ما تبعه من تشقق خطير في النظام
الرأسمالي ينذر بانهياره من القواعد، كل ذلك سوف يؤدي إلى توجيه الأنظار نحو
النظام الاقتصادي الإسلامي، خاصة الإنجازات التي حققتها الصيرفة الإسلامية. ولعل الأثر المنتظر في أول الأمر أن يتنبه ولاة الأمور
في الدول الإسلامية إلى أن الإسلام قد قدم إليهم كنزا ثمينا مملوءً باللآلئ
والدرر، لم يلتفت معظمهم إليه على الرغم من قربه منهم. ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى
اهتمام الحكومات الإسلامية بتنمية وتطوير الصيرفة الإسلامية، واستخدامها كدرع صلب
ضد التأثر بالأزمات العالمية.
ولقد أكد المتخصصون في الاقتصاد الإسلامي منذ أكثر من
ثلاثين عاما في بحوثهم وأدبياتهم، أن الاقتصاد الإسلامي أكثر كفاءة واستقرارا من
الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية. وأن التمويل الإسلامي كذلك أكثر كفاءة واستقراراً
واتصالا بالتنمية الاقتصادية من التمويل التقليدي المبني على الربا أو الفائدة.
والآن وقد تواترت البراهين على ذلك، فقد يعمد المسلمون أخيرا إلى الاستفادة من
الصيرفة الإسلامية بصورة أكبر وأكثر فاعلية مما يقومون به الآن.
وإن كان ما يزال من المستبعد أن يقوم الغرب بالتحول إلى
الصيرفة الإسلامية، فإن غريزتهم للاتجاه إلى كل ما هو نافع سوف تقودهم إلى فتح
الأبواب المغلقة في وجه الصيرفة الإسلامية في بلادهم. ولا نستبعد في هذا المجال أن
تحذو فرنسا وأسبانيا وألمانيا حذو بريطانيا في تعديل قوانينها بما يسمح بفتح بنوك
إسلامية، كما لا أستبعد أن يحدث ذلك أيضا في الولايات المتحدة الأمريكية، ولو بعد حين.
ولقد أثبتت البنوك الإسلامية في الماضي أنها أكثر
استقرارا من البنوك التقليدية، ولكن هذا الاستقرار يتطلب شيئين، الأول هو الحرص
على حسن الإدارة، والشيء الثاني أن تحرص البنوك الإسلامية على التزامها الشرعي،
وتبتعد عن المنتجات سيئة السمعة، وعلى رأسها بيوع العينة والتورق المنظم.
وإذا توفر ذانكما الشرطان، فإن البنوك الإسلامية سوف
تكون في أمان من التأثيرات السلبية الحادة للأزمة، خاصة الإفلاس والتصفية.
ولكن تأثير الكساد شيء آخر، فقد ينعكس في جانبين: الأول
انخفاض الودائع أو على الأقل تباطؤ نموها، والثاني مواجهة بعض المستثمرين انخفاضا
في السيولة نتيجة لانخفاض الطلب على ما ينتجون من سلع وخدمات.
ولذلك فإن البنوك الإسلامية لا يمكن أن يقع عليها تأثير
مباشر من الأزمة المالية العالمية. ولكنها برغم ذلك تعيش في عالم يطغى فيه التمويل
الربوي على غيره، ولذلك فلا مفر من أن تتأثر بالعوامل غير المباشرة، خاصة الكساد،
كما سبق تبيانه. واقتصار التأثر بالعوامل غير المباشرة يعنى أن البنوك الإسلامية
سيكون تأثرها أقل، وقدرتها على الصمود أكثر من البنوك التقليدية.
ولكن كيف تستطيع البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية
الإبحار بسلام عبر هذه الأزمة؟ قلنا إن البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية عليها
أن تقوم ببعض الأمور لكي تخفف من آثار الأزمة المباشرة وغير المباشرة عليها، الأول
هو الحرص على حسن الإدارة. وتأتي أهمية ذلك من أن البنوك الإسلامية تمر بحالة توسع
سريع، فبالإضافة إلى زيادة عددها، فإن بعضها يتزايد حجمه زيادة كبيرة، ويتوسع خارج
الحدود إلى دول أخرى. ويخشى أن تفقد الإدارة في تلك البنوك بعض سيطرتها على
الأمور، مما يعرضها إلى انخفاض شديد في كفاءة التشغيل. كما أن الإدارة وقت الأزمات
تشبه الملاحة بين مياه تكثر فيها الصخور، فهي تحتاج إلى حرص خاص يمنع حدوث صدمات
مريعة تودي بالمؤسسة ومن فيها. كما أن هناك عاملا مهما لا يمكن إغفاله، وهو يدخل
في باب حسن إدارة المصارف الإسلامية بصفة عامة، وهو تنويع النشاط الاستثماري للبنك
الإسلامي، إذ إن تنويع النشاط من المبادئ المصرفية المعتبرة، كما أن البنوك
الإسلامية لديها قدرة لا تتاح للبنوك الربوية في تنويع استثماراتها، لأنها تقوم
بالاستثمار المباشر، وبتمويل الإنتاج والتجارة وكذلك تمويل احتياجات الأفراد.
والشيء الثاني أن تحرص البنوك الإسلامية على التزامها
الشرعي، وتبتعد عن المنتجات سيئة السمعة، وعلى رأسها التورق المنظم. ويجب على
البنوك الإسلامية ألا تنسى أن اتباع القواعد الشرعية كان وما يزال سر نجاحها، وأن
أساليب التمويل الإسلامي المطابقة للشريعة لها مبررات قد تغيب عن البعض أحيانا،
ولكنها تظهر آجلا أو عاجلا عندما يواجه العالم مشكلات اقتصادية حادة. وإذا كان من
الطبيعي أن تحفز الأزمة الجمهور الذي يتعامل مع البنوك الإسلامية إلى التدقيق في
تحري الحلال، فإن البنك الإسلامي الذي يصر على الاستمرار في تسويق المنتجات سيئة
السمعة سوف يتعرض بدرجة أكبر إلى تدهور سمعته وفقدان ثقته.
ومن حيث انخفاض أو تباطؤ نمو الودائع، فإن المصارف
الإسلامية لديها سلاح فعال لتحفز المودعين على إبقاء ودائعهم أو حتى زيادتها، هذا
السلاح هو خفض نصيب البنك بصفته مضاربا من أرباح الودائع. فمن الممكن أن يقوم
البنك الإسلامي بخفض تلك النسبة، والتي تتراوح عادة بين 20 و30 في المائة من أرباح
الودائع لمدة سنة أو أكثر، بحيث لا يكون تأثر أرباح الودائع بالكساد كبيرا، ولا
يثير تخوف المودعين، بل قد يكون من المناسب أن تنخفض تلك النسبة إلى نصفها في أول مراحل
الكساد، ثم تتناقص أكثر لتصل إلى الصفر عندما يصل الكساد إلى أقصاه، وبعد ذلك
ترتفع بالتدريج حتى تعود إلى ما كانت عليه. المهم أن يحافظ البنك ما أمكن على ثقة
وولاء المودعين.
ومن حيث انخفاض الطلب على السلع والخدمات، وتأثير ذلك
على سيولة المستثمرين، فإنه من المهم ألا تحذو البنوك الإسلامية حذو البنوك
التقليدية من حيث الإصرار على قيام المتمولين بالسداد الكامل في الموعد وفرض
الفوائد التأخيرية وغيرها، فهذا الأسلوب سوف يؤدي بكثير من المستثمرين إلى الإفلاس
والتصفية، ودخول البنك قسمة الغرماء مع باقي الدائنين، وبالتالي تحمّل مخاطرة
مزدوجة تتضمن خسارة المستثمر الذي اضطر إلى الإفلاس، والثاني، التحصيل الجزئي وليس
الكلي لما قدمه من تمويل.
والأفضل أن يتعاون البنك الإسلامي مع المستثمرين الذين
قام بتمويلهم بأساليب المشاركة والمضاربة لمساعدتهم على تذليل صعابهم وتوفيق
أوضاعهم حتى تزول الأزمة، أما بالنسبة للمستثمرين الذين حصلوا على تمويل سلعي،
فالأفضل أن تعاد جدولة ديونهم بما ييسر لهم السداد، من دون زيادة في قيمة الدين،
وذلك كما تقضي به الشريعة. كما أننا لا ننسى أن استثمارات البنوك الإسلامية تكون
غالبا مركزة في القطاعات السلعية، ويكون العائد عليها أعلى من سعر الفائدة، تغطيةً
للمخاطر التي لا توجد عادة في حالة بيع النقد بالنقد. وعلى الرغم من أن أسعار
الفائدة تتدهور مع الكساد، فإن الهامش بينها وبين معدلات العائد على الاستثمارات
الحقيقية يبقى وقد يزيد، وفي هذا مجال لتغطية الآثار المترتبة على مساعدة من
يواجهون الإعسار المؤقت على توفيق أوضاعهم.
والآن هناك كلام كثير يشاع حول اندماجات بين البنوك
والمؤسسات المالية الإسلامية، فهل يساعد ذلك على تخطي الأزمة؟ الاندماجات يمكن أن
تفيد في حالة واحدة وهي اندماج مؤسسة ضعيفة بمؤسسة قوية، وأن تتفوق قوة المؤسسة
القوية على ضعف المؤسسة الضعيفة. أو أن تندمج مؤسستان قويتان لينتج عن ذلك مؤسسة
أكثر قوة. أما الاندماج بين الضعفاء فهو يشبه إضافة أصفار إلى أصفار، ولا تنتج عن
ذلك إلا أصفار أخرى. والآن فقد حان الوقت أن نسأل عن مجال تأثر البنوك المركزية
بالأزمة؟ البنك المركزي هو القائم على أموال الدولة وهو المسؤول عن سياساتها
النقدية، التي تهدف إلى استقرار الأسعار وتخفيف حدة الاختلالات الاقتصادية.
ومن حيث أموال الدولة، فإن البنك المركزي يحتفظ
باحتياطيات من العملات الأجنبية. والغالب أن توظف تلك الاحتياطيات في أدوات مالية
ربوية تصدرها الحكومات الغربية، مثل سندات الحكومة الأمريكية، وسندات الحكومات الأوربية.
وفي هذا الصدد، يواجه البنك المركزي في دولنا نوعين من المخاطر: الأول يتصل
بالمحافظة على أصل تلك الاحتياطيات بحيث لا تنخفض قيمتها، التي تتأثر بأسعار
الصرف، والثاني يتصل بالعائد الربوي على تلك الاحتياطيات. ومن حيث الحفاظ على قيمة
الأصل، فمن الطبيعي أن تحصن البنوك المركزية قيمة احتياطياتها من مخاطر سعر الصرف
عن طريق وضعها في سلة من العملات تحسب مكوناتها بدقة، بحيث تقلل ما أمكن من مخاطر
تدهور أسعار الصرف. وهذا يحتاج بالضرورة إلى تعويم سعر صرف العملة المحلية أو
ربطها بسلة من العملات بنسب تجارة الدولة مع بقية دول العالم. وقليل من الدول
العربية من يفعل ذلك، والأغلب، أن ترتبط العملة بالدولار وحده، فيعلو سعر صرفها
وينخفض مع سعر صرف الدولار. وهذا يضر بالاقتصاد الوطني ضررا شديدا، ويحرم الدولة
من أن تكون لها سياسة نقدية مستقلة، نظرا لاضطرارها لاتباع السياسة النقدية التي
يرسمها بنك الاتحاد الفيدرالي الأمريكي. وعلى الرغم من كل ما قيل ويقال كمبررات
لهذا الأسلوب، فإننا نؤكد أنه ما من منطق اقتصادي يمكن أن يبرر ربط العملة ووضع كل
أو معظم الاحتياطيات بالدولار. ولا يبق في هذا الصدد إلا البحث عن المبررات
السياسية التي نتركها للمتخصصين في العلوم السياسية.
أما ما يتصل بالعائد على الاحتياطيات لدى البنك المركزي،
فما دامت الاحتياطيات موظفة توظيفا ربويا في سندات الحكومة الأمريكية، فإننا نعلم
أن أسعار الفائدة على السندات الحكومية الأمريكية قد وصلت إلى الحضيض، فهي تساوي
حاليا 5 .1 في المائة سنويا، ومن غير المستبعد أن تنخفض إلى واحد في المائة،
وبالتالي، فإن العائد الربوي لا يغطي معدل التضخم، وهذا يعني أن القيمة الحقيقية
للاحتياطيات تتآكل بالتدريج. والكاسب هو الخزانة الأمريكية، والخاسر هو المواطن
العربي الذي له حق ثابت في تلك الاحتياطيات.
وهناك عامل اقتصادي آخر، وإن كان له جانب سياسي، وهو أن
الحكومة الأمريكية لن تسمح لأي دولة عربية ببيع ما لديها من سندات بكميات كبيرة،
بغية التحول من الدولار إلى عملة أخرى، بحجة أن هذا يضر بالمصالح الأمريكية، وهو
منطق عجيب لأن المصلحة الجديرة بالاعتبار هي مصلحة الدولة المالكة للاحتياطيات
وليست المضيفة لها. وهذا يذكرنا بالأرصدة المصرية التي تراكمت لدى الخزانة
البريطانية وقت الحرب العالمية الأولى، وتم الإفراج عنها قطرة قطرة، بعد أن فقدت
الكثير من قيمتها بفعل التضخم، كما أن العائد الربوي عليها لم يكن ذا بال.
ومن الممكن أن ندعو البنوك المركزية إلى استرداد
احتياطياتها واستثمارها استثمارات متوافقة مع الشريعة تكون على قدر كبير من السيولة.
وهذا ليس بالأمر المستحيل، ولكن لا نتصور أن هذا الموضوع يمكن أن يطرح في الوقت الحاضر.
وماذا عن الضغوط على العملات الخليجية، هل تخف أم تزداد
وقت الأزمة؟ العملات الخليجية التي استقلت جزئيا عن الدولار، كالدينار الكويتي،
تكون في وضع أفضل من غيرها، بشرط الابتعاد عن الاستثمار في السندات الحكومية من أي
نوع، وابتداع أساليب جديدة وغير تقليدية لاستثمار تلك الأموال في القطاع الحقيقي
استثمارات قصيرة الأجل تدر عائدا أفضل من أسعار الفائدة. أما العملات التي مازالت
ترتبط بالدولار، فلا نجد علاجا لها سوى فك الارتباط قدر الإمكان، وبقدر ما تسمح به
الظروف السياسية.
ولكن كيف يخرج العالم من الأزمة؟ حل الأزمة ممكن وسهل،
ولكنه غير محتمل، ويتلخص في الاعتراف بفشل النظام الرأسمالي وانضمامه مع شقيقيه
الشيوعي والاشتراكي إلى نادي النظم الفاشلة، ومن ثم وضع خطة للتحول إلى النظام
المالي الإسلامي يمكن تنفيذها خلال عامين. هل تقبل الدول الغربية هذا الحل؟ وهل
تقبل الدول العربية هذا الحل؟ لا نرى أملا كبيرا في ذلك، بل قد يحتاج الأمر إلى
تكرر مثل هذه الأزمة بصورة متزايدة الحدة قبل أن تصحو الحكومات من الغفوة المعاصرة.
وعلى الأقل، فإن على الدول الغربية أن تفتح أبوابها للتمويل الإسلامي وتدخل في
إطار النظام المالي المزدوج الذي تعمل فيه البنوك الإسلامية جنبا إلى جنب وعلى قدم
المساواة مع البنوك التقليدية، وأن تقوم الدول العربية التي قبلت هذا النظام من
حيث المبدأ بتوفير البيئة المواتية للتمويل الإسلامي وإعطائه فرصة مكافئة لما
تعطيه التمويل التقليدي.
وأخيرا وليس آخرا، هل هناك مستفيدون من هذه الأزمة؟
المستفيدون أطراف عدة: على رأسها البنوك والمؤسسات المالية الضخمة التي ارتكبت خطأ
شنيعا في الإقراض العقاري الرديء ثم تمكنت من الحصول على أموال هائلة لتصحيح
أخطائها من دون أن تتحمل من جانبها أية تكاليف، أي أنها هبطت من طائرة توشك على
السقوط باستخدام مظلة هبوط من الذهب الخالص.
ومن المستفيدين أيضا المقامرون الذين سبق وأن باعوا
الكثير من الأسهم بيعا قصيرا بأسعار مرتفعة، والآن يشترونها بأبخس الأثمان، ليجنوا
الملايين من مصائب الناس.
ومن المستفيدين أيضا سماسرة الأسواق المالية الذين
تمكنوا من جني عمولات ضخمة خلال التبادل المحموم في تلك الأسواق من جانب من يحاول
التخلص من أسهمه قبل وقوع الواقعة.
ومن المستفيدين أيضا السياسيون الذين قبضوا أجر ما صاغوه
من قوانين لدعم المؤسسات المالية الكبيرة، إما على هيئة تبرعات سخية لحملاتهم
الانتخابية، أو على هيئة منافع أخرى ظاهرة وباطنة.
ولعل أكبر المستفيدين
هو حكومة الولايات المتحدة التي تتلقى معونة من كافة مقرضيها من الغافلين حملة
الدولار، سواء كان ذلك الدولار في جيوبهم، أو في حساباتهم المصرفية، أو موظفا في
سندات وأذون الخزانة الأمريكية بفائدة تقل عن معدل التضخم.