الشعب المصري للجيش: علمني كيف أثور
د. معبد علي الجارحي
مصر بلد العجائب والتاريخ، بلد الفراعنة والطغاة، وشعب
يثور مرات ضدهم، فيفشل أحيانا وينجح أخرى، ولكنه في كل مرة يجدد نفسه وأسلوبه
وطريقته. وحتى لا نغرق في سبعة آلاف عام من التاريخ، لنبدأ بعام 1952، عندما كان
الشعب المصري يشن كفاحا ضد الإنجليز في القناة، والصهيونية في فلسطين، ويحاول
جاهدا أن يحمي حريته وكرامته تحت ملكية فاسدة انتهت إليها الأسرة العلوية. وكان
الليبراليون والعلمان حينئذ هم النخبة الظاهرة وسادة الموقف السياسي، بينما
الإسلاميون هم وقود الكفاح ضد الإنجليز والصهيونية والملكية الفاسدة. في هذا الجو
الغريب قام أول انقلاب عسكري في تاريخ مصر الحديث بعد حركة المجاهد أحمد عرابي،
التي فشلت في اقتلاع الملكية، وثورة 1919، التي حققت مكسبا متواضعا من خلال
ديمقراطية برلمانية تفتح أبوابا أمامية لتدخل الملك، وأبوابا خلفية لتدخل الإنجليز،
وكانت المناكفة بين أحزاب النخبة وزعمائها هي أوسع باب تستغل منه مصر. واقتصر الكفاح السياسي في ذلك الوقت على
المظاهرات التي كانت مباحة، وشارك فيها بكثافة طلبة المدارس والجامعات، والنشاط
الحزبي الذي يحد من فاعليته تنازع أحزاب النخبة الليبرالية العلمانية، وشوائب
نزاهة الانتخابات.
في هذه الظروف، حدث الانقلاب العسكري الأول الذي كان من
المفروض أن يبني نظاما سياسيا جديدا مبنيا على الحرية السياسية والعدالة
الاجتماعية والاستقلال السياسي والاقتصادي. وكانت الظروف السياسية مهيأة لنجاحه،
حيث وقفت أمريكا بجانبه لرغبتها في الحلول محل بريطانيا في نفوذها في الشرق
الأوسط، كما أن منظر الجنود المصريين وهم يوجهون سلاحهم المتواضع تجاه القصر أشعل
مخيلة المصريين البسطاء، وأوقع الكثيرين منهم في الإيمان بالفاشية العسكرية دون أن
يشعروا بخطورة ذلك.
وبعد أن امتدت الفترة الانتقالية لانقلاب عبد الناصر
عامين بدلا من ستة أشهر، بدأ النزاع حول النظام السياسي، الذي كان يراه عبد الناصر
دكتاتوريا، بينما يراه محمد نجيب أول رئيس جمهورية معين، ومعه أحزاب النخبة
التقليدية والإسلاميون، ديمقراطيا. وتمكن عبد الناصر من خلال مناوراته السياسية
وشخصيته الجماهيرية من استدراج الشارع لتأييد الدكتاتورية وإسقاط الديمقراطية،
وكان من بين أساليبه أن نظم تفجيرات في القاهرة لإثارة القلاقل واستفزاز الجماهير
ضد الديمقراطية. وأصبح هذا الأسلوب تقليدا من تقاليد الدولة الأمنية في إثارة
الفتن وبلبلة الأمور. ولما استتب الأمر لعبد الناصر، أمم الصحافة واستخدمها لترويج
نفسه وتلطيخ سمعة أعدائه من الأحزاب والإسلاميين، وأمم الصناعة لضمان ولاء العمال
من خلال تحويلهم لموظفين لدى الدولة، ووزع جزءا من الأرض الزراعية التي انتزع
ملكيتها عنوة من أصحابها على العديد من الفلاحين، ليحقق شعبية بينهم.
الأهم أن الإسلاميون والنخبة العلمانية الليبرالية لم
يستطيعوا الثورة لاستعادة الديمقراطية. وكانت سبل الكفاح السياسي مسدودة تماما،
اضطر معها الإسلاميون للعمل السري، وكان خطابهم السياسي تغلب عليه النزعة الدينية،
والتي وإن كانت متسمة بالوسطية، لكنها لم تجعل الحريات السياسية مركزا لها. وذابت
النخب في التنظيمات المتوالية التي أنشأها عبد الناصر لدعمه سياسيا، مثل الاتحاد
الاشتراكي. واستعان عبد الناصر بقيادات النخب في الإعلام والجامعات لوضع أساس فكري
لحكمه، فكتب له البعض كتيبات تحولت إلى أناجيل في عصره مثل فلسفة الثورة والميثاق
وغيرهما. وهكذا أسس عبد الناصر لفاشية عسكرية عتيدة امتدت مع بعض التغييرات
الشكلية حتى خلع حسني مبارك. وبقي رئيس الجمهورية يجمع في يده صولجانات الحكم
الفرعونية، في إطار ديمقراطية مزيفة في ممارساتها ونتائجها.
وتجمعت أخطاء النظام تدريجيا لتهدر بقايا العقيدة
الفاشية في مصر. ومنها الحكم مدى الحياة، ثم محاولة التوريث، والتزوير الفاضح
للانتخابات، والقمع والتنكيل في ظل الدولة البوليسية. وزاد الطين بلة أن مصر بقيت
متخلفة اقتصاديا ومتراجعة سياسيا. ويكفي أن نذكر أنه بالرغم من الطفرات التي
حققتها تركيا وماليزيا، بالإضافة للهند والصين والبرازيل، بقيت مصر في عداد الدول
المتخلفة، وأدى تزايد تبعيتها للخارج إلى فقدانها سيادتها على سيناء وتراجع دورها
الإقليمي، لصالح تركيا وإيران.
وحفزت أخطاء النظام الفاشي الإسلاميين والنخب الليبرالية
العلمانية على التعاون سياسيا في الإطار الضيق الذي سمح فيه النظام. وأدت ثورة المعلومات وتحول العالم إلى قرية
صغيرة إلى ازدياد وعي الشباب المصري وتواصله، حتى استطاع في النهاية أن يطلق ثورة
يناير التي فاجأت الإسلاميين والنخب، لأنهم وجدوا فجأة الشباب الإسلامي والليبرالي
والعلماني يعتصمون في الميادين بكثافة، ويرفعون أعلام الحرية والعدالة الاجتماعية
دون تخطيط من قادتهم، فأسقط في أيديهم وانضمت القيادات في النهاية للقواعد
الشبابية. وكانت ثورة يناير تعبيرا عن حرص
الشعب على استعادة حريته وكرامته بعد ستين عاما من العبودية، وإصرارا لعبور حاجز
الخوف الذي بنته الدولة الأمنية. وكانت أول مواجهة حاسمة تتم بين الفرعون المصري
والشعب، سبقتها مواجهات أقل حسما في تاريخ مصر الحديث.
المعضلة الكبرى في ثورة يناير أن الجيش لم يترك الشعب
يستأثر بالثورة ونتائجها، وإنما تقدم ليحوز جزءا من شرف تحقيقها، فضغط على مبارك
للتنحي، وهكذا تخلصت مصر من الطاغوت في عدة أيام، كما حدث في تونس. ولكن جيش مصر
ليس مثل جيش تونس، فالفرق شاسع بينهما.
جيش تونس محدود العدد والقوة والنفوذ. بينما جيش مصر ضخم الحجم، تعوّد على أن
يكون ذا صلة بالحكم، حيث يختار الرئيس من بين قادته، ويعين وزير الدفاع من بينهم،
وهو في الوقت نفساه القائد العام ووزير الإنتاج الحربي. وهذا يركز سلطة هائلة في
يد شخص واحد. كما انه يسيطر على جزء كبير من اقتصاد الوطن، وعلى النسبة الغالبة من
أراضيه. وقادته يعملون في ظلال من السرية التي تبررها دواعي الأمن القومي، ولكن
هذه السرية تمتد لأمور في صلب اهتمام الشعب، كمرتبات قياداته ومخصصاتهم، وكثير من
تفاصيل ميزانيته. وهو أقوى نفوذا من الجيش الأمريكي، لأن الآخر تخضع ميزانيته
لرقابة الكونجرس، أما الجيش المصري فلم يفلح كتاّب الدستور في إعطاء السلطة
التشريعية هذا الحق. كما أنه في الولايات المتحدة، وزير الدفاع يتولاه مدني، وليست
هناك وزارة للإنتاج الحربي الذي يتولاه القطاع الخاص. كما أن المحاكمات العسكرية تقتصر على العسكر
دون المدنيين، بينما لدينا مواد دستورية تسمح بمحاكمة المدنيين عسكريا. ولهذا هناك الكثير من عدم الشفافية في الجوانب
العسكرية، ينتج عنها إشاعات عن مرتبات هائلة ومخصصات أكبر ونفقات لا حصر لها وغير
ذلك من القصص المتداولة بين الناس.
وتدخل الجيش في ثورة يناير وما بعدها يعزز الشكوك أن
قادته لهم مصالح اقتصادية وسياسية يريدون حمايتها ولا يقبلون التفريط فيها. ولذلك،
فإن البهجة التي ارتسمت على وجوه شباب الثورة عندما هتفوا في ميدان التحرير حرية
... حرية، ابتهاجا بتنحي مبارك لم تكن في محلها، لأنه اُستبدل بمجلس عسكري أدخل
الجيش في عملية الحكم من حيث يصعب اقتلاعه.
ومن الطبيعي أن تحاول قوى الثورة التعامل مع هذه الظاهرة بحذر. وبالرغم من
استبعاد المجلس العسكري مع تولي أول رئيس منتخب انتخابات حرة في تاريخ مصر، وهو
الدكتور محمد مرسي، فإن ظلال الجيش استمرت في التخييم على قصر الرئاسة ومقار الحكم
في مصر.
وعندما حصل التنازع خلال ولاية مرسي بين الإسلاميين
والنخبة الليبرالية العلمانية، كان من الواضح أن الإخوان الذين تولوا الحكم في شخص
مرسي تعددت أخطاؤهم، وأن الاحتجاجات المتوالية والاضطرابات السياسية المتعمدة من
جانب المعارضة قد أشعلت غضب الكثيرين، مقدمة بذلك فرصة ذهبية للنخبة المعارضة
للتخلص من شركائهم في الثورة. وكان من
الطبيعي في هذا الوضع أن تلجأ النخبة للتعبئة خلال الانتخابات القادمة لمجلس
النواب، لكي تحصل على أغلبية مريحة تمكنها من التخلص من مرسي قبل انتهاء مدته،
ولكن لن تمكنهم من الخلاص من خصومهم السياسيين من الإسلاميين، الذين كانوا سيستمرون
في العمل السياسي ولكن بأغلبية أقل.
وبسرعة كشفت النخبة الليبرالية العلمانية عن حقيقة
توجهها، إذ أنها لم تكن لتكتفي بتغيير رئيس الجمهورية، بل تطمح لاستبعاد
الإسلاميين تماما عن الساحة السياسية، وتعيد بناء مؤسسات الدولة على نسق يرضونه
هم، بصرف النظر عن رأي الأغلبية. وهكذا
استدعت النخبة الانقلاب العسكري. وكان من
غير المتوقع أن تتراجع القيادة العسكرية عن قسمها لتأييد الدستور والولاء للقائد
الأعلى للقوات المسلحة، لأن تقاليدها العسكرية تعتبر النكوث عن الأيمان والعهود إخلالا
بالشرف العسكري، وتراجعا عن خدمة الشعب الذي هو المالك الحقيقي للجيش. ولكن القيادة ضربت بكل ذلك عرض الحائط، وجمعت
تفويضات قبل 30 يونيو بأكثر من شهر، باعتراف منى مكرم عبيد في تسجيل مصور، ثم لما
قامت مظاهرات 30 يونيو فاجأنا القادة بأن "الشعب المصري" خرج وفوضهم في
الانقلاب. وبالتالي لم يتحرجوا عن القيام
به.
وهكذا وجد القادة العسكريون أن من مصلحتهم العودة وبقوة
إلى رأس الحكم لإعادة تشكيل نظام يحكم فيه العسكر بصورة أو بأخرى، مباشرة كانت أو
غير مباشرة.
ولم تشعر قوى الثورة من البداية بالخطر الذي يتهدد ثورة
يناير، ولكن كثيرا منهم بدأ يشعر بالمرارة عندما عطل الجيش دستور الثورة، وأفضل
وثيقة دستورية أخرجتها مصر، بالرغم مما فيها من مثالب، خاصة ما يتصل بالجيش
والإعلام، وعين فلولا على رأس النظام الجديد يغلب عليهم كبار السن الذين تم
استدعاؤهم من مقار نقاهتهم من أمراض الشيخوخة ليعيدوا تصميم النظام السياسي على
عكس ما كانت ثورة يناير ترمي إليه .
وعندما تبين للجميع أن الثورة سرقت، وأن القمع والتنكيل
أصبح القاعدة، وأن الحرية والعدالة الاجتماعية لم تعد موضع اهتمام النظام، قامت
الانتفاضة الحالية ضد الانقلاب وحكم العسكر.
ومع تزايد القمع والتنكيل، يعود الثوار القدامى إلى صفوف المحتجين، بل
ويتوجسون شرا من الانقلابين الذين يغلب عليهم فلول مبارك وتغلب عليهم نزعة
الاستبعاد والاستئصال لغيرهم.
القضية الأساسية أن القادة العسكريين لهم مصالح اقتصادية
وسياسية عميقة لا يمكن تجاهلها، وهم حريصون على حمايتها وعلى استعداد لاستخدام
السلاح والنفوذ لتحقيقها، وأن النخبة قد أعطتهم فرصة للقيام بذلك في تعارض واضح
وصريح مع مصالح الثورة ومستقبل الوطن.
ولذلك فإن ثورة يناير لم تكتمل لأن العسكر أعانوها ضد مبارك، ثم حكموا مصر
مباشرة بعده. وعندما قام العسكريون بالانقلاب، انتفض دعاة الحفاظ على الشرعية
الدستورية ومكاسب الثورة، وكانت انتفاضتهم ضد القوى الانقلابية التي سرقت الثورة،
ومن بينها العسكر. ولذلك أصبح الجيش في
مواجهة ضد الشعب، وأضحت الحركة لاسترداد الثورة حركة شعبية صرفة، لا تعتمد على
التأييد العسكري. وهذا يجعلها استكمالا
طبيعيا لثورة يناير، دون اعتماد على العسكر بل رغما عن انفهم.
بالطبع الثورة المدعومة بالجيش أسهل بكثير من الثورة
التي يقف الجيش أمامها بالقمع والتنكيل، حيث يشتد القتل ويتجاوز حدود المعقول،
وحيث تسيل الدماء دون حدود، ويضرب بالحقوق المدينة عرض الحائط. ولكنها ثورة
حقيقية، بل هي أقرب للنجاح في النهاية، لأنها ستخلص الوطن من شرين كبيرين: شر
الحكم العسكري، وشر فقدان مكاسب ثورة يناير. وأحسب أن الشعب المصري لا يمانع في
تقديم التضحيات اللازمة للوصول إلى ذلك، وسلاحه الاحتجاج السلمي المتزايد، ورفض
الحكم الانقلابي بشتى الطرق السلمية.
ومن العجيب أن الجيش بانقلابه على ثورة يناير، يقدم
دروسا مستفادة للشعب في كيفية القيام بالثورة.
وأول هذه الدروس الابتعاد عن تأييد العسكر والتعاون معهم، بل ودعوتهم
للعودة لثكناتهم، وقصر دورهم على ما يقوم به جيش وطني في دولة عصرية، وهو دور
يقتصر على حماية الحدود ومقاتلة العدو الخارجي، دون أن يكون للجيش دور اقتصادي
وسياسي.
9 سبتمبر 2013